العدد 1471 /28-7-2021

سليمان صالح

كان الخطر يحيط بتونس منذ زمن بعيد، لأن شعبها هو الذي ألهم الشعوب العربية وقادها للثورة على الطغيان، ولانتزاع الحرية التي غابت شمسها عن سماء الأمة طوال القرنين الماضيين.

ولو نجحت الديمقراطية في تونس لأصبحت مثالا تتطلع له قلوب العرب، وتمضي في الطريق نفسه تكافح من أجل بناء تجاربها الديمقراطية التي تحقق لها الاستقلال الشامل والتقدم القائم على الاكتفاء الذاتي.

المعرفة حق للأمة

منذ فترة طويلة وأنا أتابع الأحداث في تونس، وكان من أهم نتائج تلك المتابعة أن وسائل الإعلام حاولت إغراق الأمة في تفاصيل يمكن أن تحجب الحقيقة وتزيف الوعي، مثل الخلافات بين الأحزاب والاتجاهات السياسية التونسية وما يحدث في البرلمان، وهتافات العلمانيين ضد رئيس المجلس راشد الغنوشي.

لكن المخطط كان أكبر من تلك التفاصيل، لقد كانت القوى الاستعمارية والاستبدادية تثير الدخان في سماء تونس لتضلل شعبها، وتزيف وعيه، وتتلاعب به لمنعه من تطوير تجربته الديمقراطية وتقرير مصيره.

كانت قوى الاستعمار والاستبداد تدير المشهد فتدفع العلمانيين لتدمير التجربة الديمقراطية كما حدث في مصر قبل انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، وربما تكون أهم النتائج الإيجابية التي حصلت عليها الأمة في سنواتها العجاف أن حقيقة العلمانيين أصبحت واضحة، فهم يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية خداعا للشعوب، وهم لا يؤمنون بتداول السلطة، وحق الشعب في اختيار المشروع الذي يبني على أساسه مستقبله، وأنهم يقومون بتدمير التجربة الديمقراطية إذا اختارت الشعوب الاتجاه الإسلامي، وهذا يوضح عدم إخلاصهم لقضية الديمقراطية، كما أنهم يطبقون معايير مزدوجة تتنافى مع العدل وتشكل أساسا للظلم والاستبداد.

أصل المشكلة

لكن لماذا يقف العلمانيون مع الاستبداد والدكتاتورية ويؤيدون الانقلابات العسكرية في مواجهة الاتجاه الإسلامي؟!

الدراسة المتعمقة لتاريخ الأحزاب العلمانية توضح أن هناك علاقة قوية بين التبعية لأميركا ودول الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا ورفضها للإسلام لأنه يمكن أن يقود كفاح الشعوب لتحقيق الاستقلال الشامل، وربما يكون شعب تونس هو الأقدر على معرفة تلك الحقيقة.

إن العلمانيين يمكن أن يدمروا المجتمعات حتى لا تصبح إسلامية، وذلك يتفق مع موقف فرنسا من الإسلام ونشرها للإسلاموفوبيا والقوانين التي تصدرها لفرض القيود على المسلمين بحجة أن الإسلام يتناقض مع قيم الجمهورية.

هل يمكن أن يفسر لنا ذلك تعقيدات المشهد ليس في تونس وحدها، وهل يمكن أن يفسر لنا ذلك التحالف بين فرنسا والاستبداد العربي؟

إن الأمة أصبحت تحتاج إلى فتح ذلك الملف، وإلى صحافة حرة تكشف للأمة الحقائق، فوعي الشعوب ومعرفتها بالعدو هما بداية مرحلة الكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل.

الدستور أساس الديمقراطية.. ولكن!

الدستور هو الأساس الذي تتفق عليه كل القوى السياسية والفكرية لإدارة المجتمع والشؤون العامة وحماية الحريات، لذلك كان الحفاظ على دستور 1923 وتطبيقه من أهم محاور كفاح الشعب المصري قبل عام 1952، وكان الاحتلال الإنجليزي والملك يقومان بتعطيل الدستور لتمكين وزارات الأقلية التابعة لهما من الحكم، واستبعاد الأغلبية التي تنجح في الانتخابات.

لكن ظهرت بعد ذلك أساليب أخرى أكثر خطورة هي تطبيق الدستور بأساليب انتقائية ومعايير مزدوجة، وهذا يتناقض مع روح الدستور وهدفه، فلا يجوز استخدام نصوصه لتعطيل الحياة السياسية أو حرمان الأغلبية من حقها في الحكم.

وقوى الاستبداد والطغيان تجيد العبث بالدساتير والتلاعب بها، والبحث عن ثغرات تتيح لها إجهاض التجارب الديمقراطية كما حدث في مصر عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكمها بحل مجلس الشعب بحجة وجود نص غير دستوري في قانون الانتخابات، فألغت بذلك أول مجلس يختاره شعب مصر في انتخابات حرة نزيهة منذ عام 1951.

لذلك لا بد أن نؤكد على مبدأ أن العبث بالدستور واستغلال الثغرات الموجودة فيه هو انتهاك للدستور نفسه وإجهاض للديمقراطية وتقييد لحقوق الشعوب.

حالة الضرورة

من أهم الثغرات التي تستغلها قوى الاستبداد والطغيان ما يطلق عليها حالة الضرورة التي تتيح للحاكم أن يتخذ من الإجراءات ما يمكن أن يحمي الأمن القومي أو السلم العام في حالة قيام خطر يهدد أمن البلاد، ومن بين تلك الإجراءات فرض حالة الطوارئ التي تتيح للسلطة عدم التقيد بالإجراءات التي ينص عليها الدستور، خاصة في مجال الحريات العامة.

وفي الكثير من الدول يتم استغلال هذه الثغرة لإجهاض الديمقراطية، فحالة الطوارئ مفروضة في مصر منذ عام 2013 حتى الآن، لكن ذلك يشكل تلاعبا بالدستور، وسوء نية في اختيار النصوص التي يتم تطبيقها، وتعسف في استخدام الحق.

وحالة الضرورة يمكن تصنيعها عن طريق أحداث مثل المظاهرات والتفجيرات التي دبرها عبد الناصر في القاهرة عام 1954، ودفع العمال للهتاف ضد الديمقراطية والمطالبة بسقوط الدستور.

وهذا بدا واضحا في المشهد المصري عام 2013، والمشهد التونسي عام 2021، وهذه الأحداث يستغلها الحاكم المستبد لتعطيل الدستور، وإجهاض الديمقراطية والانفراد بالحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة.

وقد قدم الرئيس قيس سعيد نفسه للشعب التونسي بأنه أستاذ القانون الدستوري، وأن طلابه في الجامعة الذين كان يدرس لهم هذا القانون هم الذين دفعوه للترشح للرئاسة، وهذا يعني أنه بنى صورته الذهنية كرئيس على أنه يمكن أن يحمي الدستور، ويحافظ على حق شعب تونس في الديمقراطية، وبالتأكيد فإن أستاذ القانون الدستوري يعلم أن الدستور يحمي إرادة الشعب وحقوقه ويكفل الحريات العامة.

وهذا يعني أن أولى خسائر الرئيس قيس سعيد صورته الذهنية التي كافح لبنائها، وهي ثروته الحقيقية، وربما تتشكل له صورة ذهنية جديدة باعتباره أول أستاذ قانون دستوري يتلاعب بالدستور، ويجهض التجربة الديمقراطية.

استخدام القوة الغاشمة

لقد استمعت إلى خطاب قيس سعيد، وأرى أنه افتقد القدرة على الإقناع وتجاوز الدستور، وهدد شعبه بإطلاق وابل من الرصاص عليهم، وهذا يعني أنه يستخدم القوة الغاشمة ليمنع شعبه من التعبير عن رأيه في الإجراءات التي اتخذها، كما أنه استخدم قوة الجيش في إغلاق البرلمان، ومنع النواب المنتخبين الذين يمثلون الشعب من دخوله.

وهذا يعني أنه يضرب أساس شرعيته وهو الانتخاب، فإذا كان قد وصل إلى كرسي الرئاسة بأصوات شعبه فإن النواب قد وصلوا إلى مقاعدهم البرلمانية بأصوات هذا الشعب.

ولكن ماذا سيكسب؟

لو أن الرئيس قيس سعيد أحاط نفسه بمستشارين يدرسون الواقع بعمق ويستشرفون المستقبل لأوضحوا له أن الإجراءات التي اتخذها ستشكل خطرا عليه، وأنه سيخسر كثيرا، فالقوى التي دفعته للانقلاب على إرادة شعبه سوف تتخلص منه بعد أن يقوم بدوره في تحقيق أهدافها لأنها لا تريد حاكما منتخبا في أي دولة عربية، وهي ضد الانتخابات والديمقراطية والحرية.

أما التجربة التي يريد أن يستنسخها وهي التجربة المصرية فيمكنه أن يسأل عن نتائجها، وهل سيسمح له شعب تونس بتكرارها.

وكما ألهم شعب تونس شعوب العرب وقادها في ثورات الربيع العربي يمكن أن تلهمه التجربة المصرية فيتوحد للدفاع عن حقه في تقرير مصيره، ويعلن رفضه هذه الإجراءات حتى لا تصبح تونس مثل مصر.

والتجربة المصرية ألهمت شعب تركيا فدافع عن ديمقراطيته وتمكن من كسر الانقلاب وحقق التقدم، فأصبحت تركيا قوة عالمية تبني اقتصادا يقوم على الصناعة والمعرفة والإبداع والتخطيط للمستقبل وليس على القروض.

والتجربة التركية يمكن أن تلهم الشعوب وتشكل أمامها نموذجا ناجحا، ولذلك أيدت قوى الطغيان العربي الانقلاب في تركيا، ولكن خاب أملها، وأحبط الشعب التركي مخططها.

لكن هناك نتيجة مهمة قد يظهر تأثيرها قريبا وهي أن كل الشعوب سترى الحقائق بوضوح، وستنتفض دفاعا عن حقها في الحياة والحرية والديمقراطية والتقدم، فهل يقود شعب تونس كفاح الأمة مرة أخرى ضد الاستبداد والطغيان ويبدأ مرحلة جديدة من الكفاح دفاعا عن حريته؟

هناك أمل ضعيف هو أن يتراجع الرئيس قيس سعيد عن هذه القرارات بعد أن يعرف أن قوى الاستعمار والاستبداد التي دفعته لها تريد إسقاطه بعد أن تستخدمه في إجهاض آمال شعبه في الحرية والديمقراطية، ولعله يفهم أنه يختلف عن أولئك الطغاة فهو حاكم منتخب، وهذا هو مصدر قوته، ويمكن أن يفكر في أن يجمع قوى شعبه ويوحدها، ويدير مناقشة حرة لتقوية التجربة الديمقراطية التونسية بدلا من أن يحقق أهداف فرنسا وأميركا وطغاة العرب، وهو يعرف ماذا يمكن أن يحدث له بعد ذلك.

أما الأحزاب العلمانية التونسية فلن يكون مصيرها أفضل من الأحزاب المصرية التي استدعت الجيش للانقلاب على الديمقراطية.

إن الدفاع عن حرية الشعوب والكفاح من أجل تحقيق الاستقلال شرف ومجد لا يستحقه إلا الذين يمتلكون الشجاعة ويتمسكون بالمبادئ ويحافظون عليها، والأمة تحتاج إلى قيادة تقوم على المبادئ والمعرفة والأخلاق، تقود شعوبها لتغيير الواقع الكئيب.