العدد 1475 /25-8-2021

بقلم: محمد صالح المسفر

أكملت حركة طالبان الأفغانية سيطرتها على عاصمة بلادها كابول، بعد استيلائها على عواصم أقاليم أفغانية، ولم يبق خارج سيطرتها سوى وادي بنجشير (شمال وسط)، وقد قامت بحركة التفاف حول هذه المنطقة التي تحيط بها جبال وعرة المسالك ولم تدخلها، ويتمركز فيها أشد معارضي "طالبان". قبل سقوط كابول في قبضة "طالبان" في 15 آب الراهن، أعلنت الولايات المتحدة أنها ستحافظ على مطار كابول، وأنها وضعت أكثر من ثلاثة آلاف جندي لحراسة المطار، لكي تتمكّن من إجلاء رعاياها والمتعاونين معها من الأفغان، لكن القيادة الأميركية في أفغانستان فوجئت، قبل أن تكتمل ترتيباتها، بانهيار الجيش الأفغاني وفرار الرئيس أشرف غني، وبعض قادة القوات المسلحة والأمنية، على أثر دخول قوات "طالبان" العاصمة من دون مواجهة تذكر. في هذه الأجواء، طالعتنا وسائل الإعلام بمشاهد مؤلمة ومحزنة وكئيبة لمئات من البشر، رجالا ونساء وأطفالا رضّعا محمولين بين أيدي ذويهم وشيوخا يتسلقون الأسوار المحيطة بالمطار، متجاوزين مخاطر الأسلاك الشائكة، وهم يتسابقون نحو الطائرات الأميركية على مدرجات مطار كابول التي تستعد للإقلاع، بغية ركوب الطائرات هربا من الواقع الذي حل بأفغانستان. مشهد مأسوي رهيب يذكّر جيل الكاتب بالصورة التي وصلت إلينا عام 1975 من فيتنام مطار عاصمة فيتنام الجنوبية السابقة سايغون. إنها صورة طبق الأصل لما يجري في كابول اليوم، هي نفسها الصورة التي شوهدت عام 2000 في جنوب لبنان، والانهيار السريع لجيش أنطوان لحد الجنوبي الذي شكلته إسرائيل وموّلته ودرّبته. وشاهدنا هروب عشرات من العملاء والمتعاونين اللبنانيين مع الجيش الإسرائيلي، وهم يتدافعون نحو حدود شمال فلسطين المحتلة. كما أن المشهد في مطار كابول يذكّر بانسحاب الجيش السوفييتي من أفغانستان عام 1989. من هنا نقول إن جيوش الاحتلال المدججة بالسلاح، ومعها طابور العملاء والخونة، لا مستقبل لها بين الشعوب.

يتكوّن المجتمع الأفغاني من قبائل وطوائف وأقليات وتيارات إسلامية (أصولية، راديكالية، سلفية، معتدلة، ..). وتختلف النسب باختلاف المصادر، إلا أن الثابت أن أهل السنة والجماعة 80% من السكان و19% شيعة إثني عشرية. وتؤكد مصادر أن البشتون 42% تقريبا، وتنتمي إليهم حركة طالبان. ويمثل كل من الهزارة والأوزبك 9% من السكان تقريبا، وهناك أقليات أخرى تركمانية، وفرس والقرغيز والكازاخ والعرب وغيرهم.

أعلنت حركة طالبان، وهي متماسكة، عند دخولها كابول من دون مواجهة مسلحة تذكر، وقف جميع الأعمال العسكرية القتالية، ودعت قوات الأمن إلى العودة لممارسة مهامهم في حفظ الأمن في البلاد، وأنها تتعهد بضمان أمن السكان المحليين والهيئات الدبلوماسية الأجنبية والعفو العام عن كل موظفي الدولة. وهي تجري حاليا مشاورات واسعة لتكوين مجلس حاكم يضم بين صفوفة أعضاء من غير الحركة، تضم مسؤولين في الحكومة المنهارة وقيادات من الجيش وعناصر أمنية، من أجل أن ينضموا إليها في تسيير البلاد. تورد تقارير صحافية ومخابراتية معادية لـ"طالبان" أن قوات الحركة تقيم نقاط تفتيش في المدن الكبرى، بما في ذلك كابول وجلال أباد. وهذا من واجبات أمنية معتادة تقوم بها أيضا سلطات حكومية عربية وغير عربية. وتورد أيضا أن قيادة "طالبان" أصدرت توجيها إلى خطباء المساجد في الأراضي الأفغانية كافة، دعتهم فيه إلى أن يركّزوا، في خطبهم، على مصالح النظام الإسلامي، ودعوة المواطنين إلى الوحدة والاتفاق، وتشجيعهم على التعاون من أجل بناء بلدهم والنهوض به. السؤال الواجب طرحه: أليست هذه التوجيهات من صلب واجبات النظام السياسي في حالة الأزمات؟ ألا تُحدّد مادة خطب الجمعة في مساجد كثيرة في العالم العربي، بموجب توجيهات سياسية، وهي ليست في حالة استنفار؟ ألم تحدد بعض الأنظمة السياسية العربية مدة أداء الصلاة، فلا تزيد عن 15 دقيقة؟ ألا يتم تعيين أئمة المساجد وخطباء الجمعة بمراسيم سيادية؟ من حق "طالبان" أن تصدر توجيهاتها إلى كل أئمة المساجد والجوامع، وتحضّهم على تثقيف أبناء الأمة بأهداف النظام السياسي القائم وطمأنتهم، خصوصا أن المساجد هي الوسيلة الإعلامية الفاعلة في مجتمع كمجتمع أفغانستان.

لا جدال في أن القيادة السياسية لحركة طالبان تبذل مساعيها على أمل توحيد القوى السياسية من أجل النهوض بأفغانستان. تعمل على إشراك كل السياسيين في العملية السياسية. ولا تريد أن تكون الحكومة قيد التشكيل من نوع واحد، وإنما بهدفٍ واحد، النهوض بأفغانستان وتحقيق الأمن والرخاء والاستقرار ونبذ العنف والمحافظة على السيادة الوطنية.

على حركة طالبان، في هذه الحالة مهمة بالغة الصعوبة، أن تبعث أجواء طمأنة لشعبها، وأن تسلك منهج الرسول عليه السلام في دخول مكة عام الفتح، وقوله إلى كل من عاداه من قريش "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يلاحق أحدا منهم. على الحركة أن تبذل أقصى جهودها من أجل طمأنة العالم، وذلك يتأتي ببرنامج سياسي يتماشى مع العصر، ولا يخل بقواعد المحتمع الأفغاني وتشكيل حكومةٍ تضم أفرادا من كل القوى السياسية. أكثر ما يخيف الكاتب اليوم على أفغانستان الاجتماع الذي عقد في أبو ظبي، وضمّ ولي العهد فيها محمد بن زايد، ووزير الخارجية ووزيرة الدفاع الفرنسيين. وليس بعيدا عنهم الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني. ومعروفة مواقف طرفي هذا اللقاء المعارضة لأي هيمنة لتيار إسلامي في أيٍّ من دول العالم الإسلامي. وليكن عند قيادة "طالبان" علم اليقين أن العالم لن يسمح بنجاح أي نظام سياسي يعتمد الشريعة الإسلامية منهجه في إدارة بلاده، والنماذج كثيرة في الواقع الحياتي. احترام حقوق الإنسان وضمان حريته من شرائع الإسلام، وكان للمرأة في الإسلام دور قيادي في كل مناحي الحياة بما في ذلك الحروب، وسبق المسلمون الغرب في هذا المجال.

آخر القول: آلام حلت ببعض الأفغان، وآمال حلت بآخرين، وأبصارنا جميعا شاخصة نحو أفغانستان، ترى ماذا تبيّت حركة طالبان لمستقبل الأفغان؟ بكلمة صدق، نقول لقادة طالبان "لا تبالغوا في قوتكم وانتصاركم، فبجواركم أمم كاسرة، الروس والصين والإيرانيون، ومن فوقهم القوى الأوروبية. عليكم بالتواضع والحكمة واللين غير المخل، ولا تغالوا في دينكم فتصبحوا من الخاسرين.