العدد 1489 /1-12-2021

على خلفية الواقع الجديد الذي فرضته نتائج حرب إقليم ناغورنو كاراباخ الثانية بين أرمينيا وأذربيجان في العام الماضي، تبرز في الأفق ملامح تغيّرات جذرية في جنوب القوقاز، لا تقتصر على تغيّر الخريطة السياسية، بل تتجاوز ذلك إلى علاقات أرمينيا وأذربيجان السياسية والعسكرية والاقتصادية مع محيطهما الأقرب والعالم. وبعد زوال أسباب عدة للقطيعة بين تركيا وأرمينيا، يبدو أن البلدين يقتربان أكثر إلى تطبيع العلاقات الثنائية بعد نحو ثلاثة عقود على قطع العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق الحدود تخللتها محاولات عدة لحل الخلافات، لكنها لم تصل إلى النهاية المطلوبة لأسباب مختلفة.

وكشفت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الخميس الماضي، أن بلادها تلقت طلباً من أرمينيا للمساعدة في عملية التوسط بين يرفان وأنقرة، وأكدت، في إفادتها الصحافية الأسبوعية، أن "روسيا مهتمة في تطبيع العلاقات التركية الأرمينية، وتبذل جهوداً في هذا الاتجاه، ومستعدة لتقديم الدعم لاحقاً بكل طريقة ممكنة". وخلصت إلى أن "إطلاق هذه العملية (التطبيع) سيساهم في تحسين الوضع العام في المنطقة، وتشكيل جوّ من الثقة وحسن الجوار". وعلى الرغم من أن زاخاروفا لم توضح ما إذا كانت روسيا قد بدأت عملياً في جهود الوساطة، فإنها أعطت إشارة إلى أن العملية قد انطلقت حين لفتت إلى أنه "عندما تظهر نقاط عملية جديدة، سنبلّغ بالتأكيد، شريطة عدم الإضرار بعملية التفاوض ذاتها، نظراً لحساسيتها".

ومعلوم أن تركيا قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع أرمينيا، وأغلقت الحدود معها عام 1993، بعد احتلال أرمينيا مدينة كلبجار الأذرية أثناء حرب كاراباخ الأولى، بعدما كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال أرمينيا عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أن وثيقة الاستقلال الأرمينية أطلقت على مناطق في شرق تركيا تسمية "أرمينيا الغربية". فضلاً عن رفض يرفان الإقرار باتفاقية قارص 1921، وهي الاتفاقية التي رسمت الحدود بين الدولة السوفييتية الناشئة حينها، وتركيا، وتخلت فيها أرمينيا السوفييتية عن منطقتي قارص وأردهان اللتين احتلتهما الإمبراطورية الروسية في حروب القرن التاسع عشر مع الإمبراطورية العثمانية.

تتواصل المباحثات والجهود لتطبيع العلاقات الأرمينية التركية منذ أكثر من 15 عاماً، وكادت تتكلل بالنجاح في عام 2009، بعد توقيع وزيري خارجية البلدين في ذلك الحين، التركي أحمد داود أوغلو ونظيره الأرميني إدوارد نالبنديان، على بروتوكولين لتسوية الخلافات العميقة بين الدولتين. وبدا أن تركيا اقتربت كثيراً من تطبيع العلاقات مع أرمينيا وفق نظرية "تصفير المشكلات" التي عرضها داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي"، وتنطلق من "بناء علاقات إقليمية تقوم على أساس الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي والديني". واتفق الطرفان، حينها، على الاعتراف المتبادل بالحدود الحالية بين البلدين، كما حددتها اتفاقيات القانون الدولي ذات الصلة"، ما يعني الالتزام باتفاقية قارص 1921، وتخلي أرمينيا عن مطالب بإعادة منطقتي قارص وأردهان إلى سيطرتها، والتوقف عن إطلاق اسم "أرمينيا الغربية" على هاتين المنطقتين. لكن جهود التطبيع تعثّرت بعدما ضغطت أذربيجان على تركيا، وانتقدت بحدّة سعي الأخيرة إلى فتح الحدود مع أرمينيا والانفتاح عليها، واتهمت تركيا بخيانة شعب أذربيجان، نظراً لأنها تريد بناء علاقات مع بلد يحتل نحو خُمس أراضيها، إضافة إلى كاراباخ، ويرفض إعادة أكثر من مليوني لاجئ ومشرد نتيجة الحرب في التسعينيات.

وبعد انقطاع طويل، برزت في الأشهر الأخيرة إشارات كثيرة إلى أن أرمينيا وتركيا باتتا أقرب من أي وقت مضى إلى تطبيع العلاقات الثنائية كجزء من منظومة إقليمية شاملة تؤمّن الاستقرار في جنوب القوقاز. وكشفت تصريحات المسؤولين الأرمن والأتراك أن أرمينيا سعت إلى تطبيع مع تركيا عبر قنوات مختلفة، وذكر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أن بلاده تلقت "بوادر إيجابية علنية" من الجانب التركي، وأشار في اجتماع حكومي في 27 أغسطس/آب الماضي إلى أنه "سنقيّم هذه البوادر الإيجابية، ونرد عليها بمثلها". الرد التركي لم يتأخر كثيراً، وبعدها بيومين قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه "يمكننا العمل من أجل تطبيع علاقاتنا تدريجياً مع الحكومة الأرمينية التي أعلنت استعدادها للمضي قدماً في هذا المسار". وبعدها بأسابيع، أكد أردوغان استعداد بلاده لإقامة علاقات دبلوماسية مع أرمينيا، وكشف في تصريحات في 19 سبتمبر/أيلول الماضي أن رئيس وزراء جورجيا، إيراكلي غاريباشفيلي، أبلغه برغبة باشينيان، في عقد اجتماع معه. وحينها، أعرب أردوغان عن أمله في أن يتم افتتاح ممر زانغيزور الذي يربط بين المناطق الغربية لأذربيجان وإقليم ناخيتشيفان (التابع لأذربيجان، ولكنه منفصل جغرافياً عنها) عبر الأراضي الأرمينية، كشرط للتطبيع.

وعلى خلفية الأنباء عن محاولات لتحسين العلاقات بين أرمينيا وتركيا، سعت روسيا إلى الدخول على الخط، وأعلنت أنها تدعم هذه الجهود. وأشار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 3 سبتمبر/أيلول الماضي، إلى أنه "بعد انتهاء الحرب في ناغورنو كاراباخ، هناك ما يدعو لفك جمود العملية السياسية، واستعادة العلاقات في مجالات الاقتصاد والنقل، وسيكون منطقياً أن تستأنف أرمينيا وتركيا جهودهما لتطبيع العلاقات".

وفي إشارة إلى انضمام روسيا إلى جهود التطبيع، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأرمينية، فاهان هونانيان، إن سلطات بلاده أبلغت الجانب الروسي، باستعدادها لبدء تسوية العلاقات مع تركيا من دون شروط مسبقة. وأوضح في تصريحات لوكالة "تاس" الروسية يوم الثلاثاء الماضي، أن روسيا أعربت عن استعدادها لدعم عملية تطبيع العلاقات الأرمينية التركية، وأن أرمينيا ترحب بهذه الوساطة. وشدد على أنه "لا توجد في الوقت الحالي مفاوضات مع تركيا".

مهدت نتائج حرب كاراباخ الثانية، والتي استمرت نحو ستة أسابيع وانتهت باتفاق سلام أشبه بالاستسلام بالنسبة لأرمينيا، الأجواء لتغيّرات كبيرة، وعززت النتائج إمكانية الوصول إلى تطبيع العلاقات بين أرمينيا وتركيا وإنهاء مفاوضات ومباحثات بدأت منذ نحو 15 عاماً.

وأزاحت نتائج الحرب عقبات كثيرة وقفت عثرة في وجه التطبيع، ومن الممكن أن تسهم في عدم معارضة أذربيجان لتحسين العلاقات بين تركيا وأرمينيا. فبعد الحرب، استعادت أذربيجان أراضيها المحتلة المحيطة بإقليم كاراباخ، وفي الإقليم ذاته تتقاسم السيطرة مع قوات حفظ السلام الروسية، لتنتفي أول قضية وضعتها تركيا كشرط لاستئناف العلاقات.

وعلى صعيد العلاقات الثنائية بين أرمينيا وتركيا، فقد قطع الطرفان شوطاً كبيراً منذ 2009 في حل معظم القضايا الخلافية مثل الاعتراف بوحدة أراضي تركيا، والاعتراف باتفاقية قارص 1921، ومن المؤكد أن النخب في أرمينيا باتت أقرب إلى الواقعية، وترى أن بلادها لا تستطيع مواجهة تركيا، وأنه من الأفضل تحسين العلاقات معها إلى حين توفر ظروف مغايرة.

وبات ملاحظاً أن سياسة باشينيان الخارجية لم تركز على ممارسة ضغوط كبيرة من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن المتهمة بها تركيا في بدايات القرن الماضي، وأن معظم الجهود في هذا الاتجاه تقوم بها الجاليات في الشتات. وعليه، فإن الحكومة الأرمينية يمكن أن تقول إنها أوفت بهذا الشرط الذي حددته تركيا في 2009.

وفتحت قرارات قمة الرئيس فلاديمير بوتين مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان، يوم الجمعة الماضي، الباب أمام حل عقدتين؛ الأولى اعتراف أرمينيا بوحدة أراضي أذربيجان وسيادتها، وذلك عبر الاتفاق على تشكيل لجنة ثنائية لترسيم الحدود حتى نهاية العام الحالي، والثانية اتفاق الأطراف الثلاثة على مواصلة العمل لفتح جميع طرق المواصلات. ويسهل هذا الاتفاق التوصل إلى تفاهمات بشأن ممر زانغيزور الرابط بين إقليم ناخيتشفان وباقي أراضي أذربيجان عبر منطقة سيونيك الأرمينية. وتدرك جميع أطراف المعادلة أن موافقة باشينيان على التنازل عن السيادة على ممر زانغيزور يعني انتحاراً سياسياً يمكن أن يسقط حكومته. وقبيل توجهه إلى قمة سوتشي الأخيرة، طمأن باشينيان مواطنيه بأنه لن يتنازل أبداً عن السيادة على الممر، وقال يوم الثلاثاء الماضي، إن تصريحات باكو حول ممر زانغيزور تعني أن أذربيجان لا تزال لديها "مطالبات إقليمية".

ورفض وزير الخارجية الأرميني، آرارات ميرزويان، شروط أنقرة لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، بما فيها شق ممر عبر أراضي أرمينيا ليربط أذربيجان بتركيا. ومع إشارته إلى أن بلاده مستعدة لتطبيع العلاقات مع تركيا من دون شروط مسبقة "على الرغم من المساعدة الهائلة التي قدمتها تركيا لأذربيجان أثناء الحرب على كاراباخ، والمتمثلة بالدعم السياسي وتوفير أسلحة ومرتزقة أجانب"، قال ميرزويان في مقابلة مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، إن "أنقرة تطرح شروطاً جديدة، بينها ممر يربط بين أذربيجان ونيختشفان". وشدد على أن "هذه المسألة ليست موضوعاً للنقاش إطلاقاً. على الدول أن تسمح بالترانزيت وهي تحافظ على السيادة على أراضيها. جميع المواصلات في المنطقة يجب أن تكون مفتوحة".

ويبدو أن أرمينيا التي كانت تفضل إنهاء ملف التطبيع مع تركيا من دون وساطة روسية، قررت إشراك روسيا لأسباب عدة، أهمها تخفيف الضغوط الشعبية على الحكومة من قبل القوميين المتعصبين، إضافة إلى قناعة بأن العلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وأردوغان يمكن أن تسهم في إقناع تركيا في تخفيف شروطها بشأن ممر زانغيزور وعدم المطالبة بنزع سيادة أرمينيا عن الطريق، والاكتفاء بضمانات لتشغيله من دون مشكلات أمنية. وربما تنجح الدبلوماسية الروسية في إتمام صفقة تبادل محدودة للأراضي بين أرمينيا وأذربيجان تحصل الأولى بمقتضاها على مناطق من كاراباخ، والثانية على محيط الممر، والأرجح أن توافق تركيا على صيغ من هذا القبيل، وتقنع أذربيجان بالموافقة نظراً لأهمية الممر الاستراتيجية، فهو يعيد للمرة الأولى منذ أكثر من قرن الاتصال بطرق برية مباشرة وسكك حديد بين تركيا والعالم التركي في أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان، ويفتح الباب أمام إنشاء منطقة اقتصادية متكاملة بين بلدان يتجاوز حجم اقتصاداتها 1.2 ترليون دولار.