العدد 1689 /12-11-2025

علاء الحلو

يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الإعلام في قطاع غزة بوصفه سلاحاً يجب القضاء عليه، في سلوكٍ يتصاعد مع كل جولة عدوان، ويمتد حتى ما بعدها. فإلى جانب الحصار الاقتصادي والإنساني المفروض على أكثر من مليوني فلسطيني، يفرض الاحتلال حصاراً إعلامياً ممنهجاً يستهدف عزل الرواية الفلسطينية ومنع العالم من رؤية الواقع على الأرض، عبر التضييق على الصحافيين والمؤسسات ومنع الصحافيين الأجانب من زيارة غزة وتوثيق ما جرى خلال عامي الإبادة.

تبدأ حلقات هذا الحصار من المعابر التي تسيطر إسرائيل عليها بالكامل، ويشمل المنع المعدات الصحافية والتقنية التي تُعدّ عصب العمل الإعلامي، مثل الكاميرات الاحترافية، وأجهزة البث والإرسال، ولواقط الصوت، والمولدات الكهربائية، وأجهزة الاتصال بالأقمار الصناعية، ما يؤثر مباشرة على جودة العمل الإعلامي واستمراريته.

المعدات الصحافية

وجدت المؤسسات الإعلامية نفسها عاجزة عن تجديد أو صيانة معداتها، إذ تُمنع قطع الغيار وبدائل الأجهزة التالفة أو المتضررة من الدخول، حتى أبسطها، كالبطاريات أو العدسات أو الكابلات. منع لم يُضعف فقط قدرة الصحافيين على العمل الميداني، بل عرّض حياتهم للخطر بسبب تعطل معدات الحماية والبث والاتصال الطارئ. يقول المصور الصحافي فادي شناعة لـ"العربي الجديد" إن الحصار المفروض على غزة لا يقتصر على الغذاء والدواء والوقود وتدمير مظاهر الحياة الإنسانية، بل يمتد إلى أحد أخطر أشكال التعتيم، ويضيف: "منع الإعلام ليس أمراً عابراً، بل سياسة واضحة تهدف إلى التحكم في السردية وتوجيه الرأي العام العالمي عبر رواية رسمية واحدة". ويشير شناعة إلى أن الاحتلال يمنع بشكلٍ ممنهج دخول الصحافيين الأجانب إلى القطاع، ليغلق نافذة العالم على ما يجري، ويمنع نقل الحقيقة من مصادر مستقلة، فيسعى إلى مواصلة الإبادة بعيداً عن أنظار العالم ومصوريه، مكتفياً فقط بمن يروّجون للرواية الإسرائيلية، ويصف ذلك بأنه "شكل جديد من تكميم العمل الصحافي، يشهد عليه كل صحافي في العالم". ويضيف أن حصار المعدات والإمدادات التقنية لا يقل خطورة، إذ يمنع الاحتلال إدخال أجهزة البث والكاميرات والمعدات التقنية الحديثة وقطع الغيار اللازمة لإصلاح الأجهزة المتضررة من القصف أو الاستهلاك اليومي، ما يعرقل عمل المؤسسات الإعلامية ويضعف قدرتها على الاستمرار في تغطية الأحداث.

وفي ظل هذا الواقع، يعمل الصحافيون الفلسطينيون في ظروف قاسية وبأقل الإمكانيات، ويفتقرون إلى أدنى مقومات السلامة المهنية والتقنية، بينما يواصلون أداء واجبهم في توثيق الحقيقة بكاميرات متهالكة وأجهزة محدودة، مع اعتماد شبه كلي على "صحافة الموبايل". وإلى جانب منع المعدات، يحظر الاحتلال إدخال أدوات التطوير التقني مثل أجهزة البث الرقمي والطائرات المسيرة المخصصة للتصوير الصحافي والبرمجيات الإعلامية الحديثة، كما يُمنع تدريب الكوادر الصحافية في الخارج أو استقدام خبراء إعلاميين إلى داخل القطاع، ما يجعل المؤسسات الإعلامية تعمل في ظروف تقنية متقادمة ومحدودة مقارنة بما هو متاح في باقي أنحاء العالم.

من جانبه، يوضح الصحافي باسل أبو حسان أن كل محاولات تعويض المعدات المتهالكة باءت بالفشل، سواء كانت كاميرات أو عدسات أو أجهزة إرسال أو حواسيب أو حتى سماعات أذن وميكروفونات، ويقول لـ"العربي الجديد" إن "منع إدخال المعدات فتح الباب أمام السوق السوداء، حيث أصبحت أسعار بعض الأجهزة أو قطع الغيار خيالية. على الصعيد الشخصي، أحاول منذ فترة شراء جهاز لابتوب، لكن الأسعار مرتفعة جداً". ويضيف أبو حسان أنه لم يتمكن أيضاً من تطوير هاتفه المحمول الذي يعتمد عليه في عمله، إذ تراوح أسعار بعض الأجهزة بين خمسة وستة آلاف شيكل بعد أن كانت ما بين ألف وألفي شيكل (الدولار يساوي نحو 3.2 شيكلات)، ويشير إلى أن الإعلام الفلسطيني في قطاع غزة لا يزال يعاني من تبعات الحرب رغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ منذ قرابة شهر، لأن منع إدخال المعدات والأجهزة يؤثر بشكلٍ كبير على سلاسة العمل وجودته.

منع الصحافيين الأجانب من دخول غزة

يُعدّ منع دخول الصحافيين والمراسلين الأجانب أحد أكثر أوجه الحصار الإعلامي وضوحاً. فخلال معظم فترات التصعيد، تمنع سلطات الاحتلال دخول أي صحافي أجنبي، حتى العاملين مع مؤسسات إعلامية عالمية معترف بها، ما يحرم العالم من تقارير ميدانية حقيقية من داخل غزة، لتبقى الصورة مقتصرة على بيانات رسمية أو روايات منقولة من خارج القطاع. في الإطار نفسه، يؤكد أمين سر نقابة الصحافيين الفلسطينيين عاهد فروانة أن الاحتلال يفرض حصاراً مطبقاً على كافة المعدات والأجهزة والكاميرات وأدوات السلامة المهنية منذ بداية العدوان على غزة، بل إن هذا المنع كان قائماً حتى قبل اندلاع الحرب. ويبيّن فروانة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الصحافيين لا يمتلكون أي معدات جديدة تمكّنهم من أداء عملهم، قائلاً: "نتحدث عن أكثر من عامين من المنع المتواصل، هذه الأجهزة تعطلت وتضررت واهترأت، بينما يمنع الاحتلال حتى دخول قطع الغيار"، ويلفت إلى أن الكثير من الأجهزة دُمّرت خلال الاستهداف الإسرائيلي المباشر للمقار الإعلامية، حيث دمّر الاحتلال مختلف المؤسسات الصحافية على مستوى القطاع بما فيها من معدات وكاميرات وأجهزة لازمة للعمل، ويشدد على أن الاحتلال يمنع منعاً باتاً إدخال أي نوع من المعدات على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة في هذا الاتجاه، موضحاً أنّه "حتى النقابات والاتحادات، ومن بينها الاتحاد الدولي للصحافيين، جمعوا معدات سلامة وأجهزة كثيرة، لكنهم يواجهون صعوبة في إدخالها بسبب التعنت الإسرائيلي". ووفق فروانة، تكشف هذه الممارسات مدى إحكام الحصار الإعلامي المفروض على غزة، والذي يشكّل جزءاً من سياسة التحكم في تدفق المعلومات، إذ يتيح للاحتلال السيطرة على المشهد السردي ومنع توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة من مصادر مستقلة. ويقول: "لم يكتفِ الاحتلال باستهداف الصحافيين وقتلهم وإصابتهم، بل يعمل على حصارهم ومنع دخول معداتهم". ويضيف أن من أبرز أوجه هذا الحصار أيضاً منع دخول الصحافيين الأجانب منذ بداية العدوان، مشيراً إلى أن قطاع غزة هو الرقعة الجغرافية الوحيدة في العالم التي تشهد حرباً من دون السماح بتغطية خارجية، بحجة أن "الوضع الميداني لا يسمح"، رغم تقديم مئات الطلبات من مؤسسات وصحافيين دوليين. ويؤكد أن الاحتلال لا يريد للعالم أن يرى حجم الدمار الهائل وحرب الإبادة التي يمارسها بحق الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته "يستجلب بعض الصحافيين الأجانب على ظهور دباباته، دون السماح لهم بالتحرك إلا في نقاط محددة، في محاولة لحصر التغطية بالمشاهد التي يريدها فقط".

ويترافق الحصار الإعلامي المادي مع قيود رقمية وإلكترونية، تشمل استهداف البنية التحتية للاتصالات والإنترنت، وحجب المنصات الرقمية الفلسطينية، وشنّ حملات تضييق على المحتوى الفلسطيني في شبكات التواصل الاجتماعي. بهذه الطريقة، يُغلق الاحتلال كل النوافذ الممكنة لنقل الرواية الفلسطينية إلى الخارج، لتتحقق عزلة مزدوجة: عزلة جغرافية عن العالم، وأخرى إعلامية تحجب الحقيقة.