العدد 1488 /24-11-2021

بقلم: أحمد موفق زيدان

انتخاب علماء الشام في ديار المحرر والهجرة؛ لعلاّمة الشام الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي مفتياً عاماً لسوريا، كرد عملي ومباشر على إلغاء رئيس النظام السوري بشار الأسد بمرسوم تشريعي تحت حراب الاحتلال الروسي والإيراني منصب مفتي سوريا، "ضربة معلم" حقيقية، جددت ألق الثورة، والتفاف أهلها حولها وحول العلماء، نظراً للمكانة التي يتمتع بها العلامة بالوسطية والوقوف ضد الظلم، ولعراقة العائلة منذ والده العلامة عبد الكريم الرفاعي رحمه الله.

وكان رأس النظام السوري قد عمد إلى توسيع المجلس العلمي الفقهي قبل فترة، والذي ضم ممثلين عن الأقليات بحيث تم تحويل السنّة إلى أقلية، على الرغم من كون ممن يوصفون بالعلماء لديه هم من مؤيديه وشبيحته في الغالب.

لقد كان إلغاء المنصب جرأة وقحة لم يكن يتوقعها أشد المشككين بالنظام وعصابته، لكن كان الرد عليه سريعاً وفي محلّه. لكن وبكل تأكيد فإن إلغاء المنصب من قبل النظام لم يكن وليد اللحظة، وإنما حلقة في سلسلة طويلة من الخطوات النظرية والعملية التي تستهدف هوية سوريا منذ اليوم الأول لاجتياح الاحتلال الإيراني ومليشياته الطائفية سوريا، وسعيهم الدؤوب لوأد ثورة الشام، وحين عجزوا عن ذلك بمفردهم طار قائد فيلق القدس يومها قاسم سليماني إلى موسكو طالباً نجدة ساكن الكرملين فلاديمير بوتين، وكان له ذلك.

سبق هذه الاستعانة تصريح فجٌّ وواضح في أواخر عام 2013 - حيث كان التدخل الإيراني في بدايته - لرئيس مركز عمّار الاستراتيجي لمكافحة الحرب الناعمة ضد إيران، مهدي طائب، وهو رجل دين مقرب من مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، حين قال إن سوريا تعتبر المحافظة الـ35 من المحافظات الإيرانية، بل إنها أهم في نظره من محافظة الأهواز التي تحتوي على 90 في المائة من الاحتياط النفطي الإيراني. والسبب حسب قوله أن إيران لو فقدت الأهواز واحتفظت بسوريا فبإمكانها أن تستعيدها، لكنها لو خسرت سوريا فلن تستطيع أن تحتفظ بطهران.

هنا من المناسب تكبير الزاوية، والعودة إلى تاريخ جهود عائلة الأسد في تفتيت هوية سوريا السنية العروبية، بعيداً عن الشعارات البرّاقة الخادعة التي رفعها النظام لنصف قرن، فضحك بها على من قبل الضخك عليه، ولا يزال ربما. فكان من أخطر وأول القرارات التي اتخذها حافظ الأسد بعد عام فقط من استيلائه على السلطة؛ أن ألغى رابطة علماء الشام، الأمر الذي يعني بوضوح الهدف الذي أتى من أجله، والمهدد الحقيقي الذي يراه لحكمه المستقبلي. وطوال عقود لم تنفع كل الجهود التي بذلها علماء الشام منذ ذلك التاريخ حتى أيام بشار الأسد؛ في استعادة الرابطة.

وعلى الرغم من أن حافظ كان مسكوناً بعقدته العلوية، كون الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، إلاّ أن ذلك لم يمنعه من اتخاذ قرارات جريئة كهذه، فلجأ إلى طهران مبكراً لتعويض هذا النقص، فعقد صفقة مع موسى الصدر عام 1976 تتضمن أن يعلن موسى الصدر بأن العلويين مسلمون، مقابل سماح الأسد للصدر بأن ينشط في لبنان وبدعم منه.

وتمت الصفقة، وساعد في ذلك طغيان شخصية الصدر الذي كان يُستقبل من قبل الحكام والملوك وحتى من قيادات الحركة الإسلامية، فمكّن حافظ الأسد بذلك للشيعة في لبنان عبر موسى الصدر والحركة التي أسسها لاحقاً حركة المحرومين.

ومع بروز الخميني استقبله الأسد في دمشق، واستقبل معه قادة الحرس الثوري الإيراني لاحقاً الذين تدربوا في جنوب لبنان وكانوا يحملون جوازات سفر ديبلوماسية سورية، لتأتي انتفاضة الثمانينيات، فيصطف الخميني وبقوة إلى جانبه ضد الانتفاضة، ضارباً عرض الحائط بكل نظريته الإسلامية وشعاراته بالدفاع عن المستضعفين، فيردّ عليه الأسد جميله بعد أشهر من خلال دعمه في حربه على العراق، ليضرب هو الآخر بنظرته العروبة التي تدثّر بها مخفياً طائفيته البغيضة.

هذه الخلفية مهمة جداً لفهم ما يجري اليوم، وإنني أشفق على كل من يكرر دون أن يعقل بأن الأب حافظ كان يتعامل مع إيران بندية، بينما معلوم أن البناء الذي ارتفع بناؤه يُخفي تحته أساسات ونفقات باهظة، وتأسيس ما كان له أن يرتفع عالياً دونها. وكما ضحك الأسد الأب على بعض العرب بأنه يريد دعمهم ليبتعد عن إيران، بعد أن ارتبطا بعلاقات جدلية طائفية، يعيد الابن بشار الأسطوانة ذاتها؛ طالباً الدعم من أجل تخليه عن إيران، بينما هي قد تمكنت من كل شيء حتى وصلت إلى العبث بالحمض النووي السوري بإلغاء منصب المفتي، والتغول على التعليم، وبدأت بالأوقاف السنية.

كل هذا ما كان له أن يتم لولا التمكن العسكري والأمني الإيراني من مفاصل الدولة الأساسية في سوريا، وكذلك اقتصادياً، بسيطرة الشركات الإيرانية واستحواذها على السوق الصحية وقطع غيار السيارات والمواد الغذائية، مع رفضها إقامة أي معرض للمنتوجات السورية على أراضيها.

من قرأ كتاب "الدولة المتوحشة" لكاتبه ميشال سورا، وهو الصحافي الفرنسي المعروف والذي اختُطف ثم قتل على أيدي حزب الله بأوامر من الأسد الأب، يدرك تماماً ما أقوله. لقد قال الصحافي الفرنسي وهو الذي خبِرَ الأسد الأب وانتفاضة الثمانينيات؛ إن الأخير قرر بعد تدمير حماة، ضرورة إقامة محور طائفي يربط بين دمشق وبيروت وطهران وإسلام آباد وكابول، لمواجهة أي انتفاضة سنية قادمة، فبذر بذلك الأسد الأب بذرة طائفية نحصد مرارتها اليوم عبر تشكيل ودعم وتدريب مليشيات طائفية في بيروت، وفي إسلام آباد ممثلة بمليشيات زينبيون، ومن قبلها منظمة ذو الفقار بوتو المعروفة، وكذلك فاطميون في أفغانستان، والحوثيون في اليمن والذين كانوا يتدربون في دمشق منذ الثمانينيات. وكل هذا يتم من خلال التنسيق مع إيران والمليشيات الطائفية في العراق، في الوقت الذي كانت حكومات العالم العربي والإسلامي مشغولة بملاحقة الإسلام السني، فصحت فجأة على ما هي عليه اليوم وقد هددها الطائفيون في عقر دارها.

عودة إلى إلغاء منصب المفتي في سوريا، فإن الأسد الأب كان قد أوقف انتخاب المفتي في زمنه، مما أضعف المنصب، وسار بعده ابنه على طريقة تعيين المفتي بنفسه كخطوة أولى لإضعاف المنصب، ثم إلغائه لاحقاً، فكان آخر مفتٍ منتخب هو أحمد كفتارو الذي انتخب عام 1964 بدعم من حزب البعث، ففاز يومها على منافسه الشيخ حسن حبنكة بفارق صوت واحد، إذ كان مجلس علماء الشام المكون من 35 عضواً هو من ينتخب المفتي، فصوّت 18 منهم لكفتارو، و17 منهم لحسن حبنكة الميداني، واستمر كفتارو في منصبه إلى أن مات في عام 2004، وطفق بشار بعدها بتعيين المفتي بناءً على ترشيح وزير الأوقاف، على أن تكون فترته لثلاث سنين فقط.

الاحتلال الإيراني الذي يرى نفسه منتصراً بدأ يستغل واقع تراجع الأمة السنية في الشام، فعمل على تقسيم غنائم نصره، فكان أن شرع في تفتيت هوية سوريا بعد أن شرّد 14 مليون سني وأحال حواضرهم إلى يباب غير قابلة للسكنى. هذا الإلغاء سبقه قرار في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 منح فيه رأس النظام صلاحيات واسعة لوزير الأوقاف، فجرّد المفتي من كل صلاحياته، وحوّله إلى مجرد شكل، يُهرطق بين الفينة والأخرى كما حصل مع هرطقاته في تفسير سورة التين، لا لشيء إلاّ ليثبت وجوده أمام الداخل والخارج.

واليوم يمنح بشار المجلس العلمي الفقهي صلاحيات واسعة بعد أن تحول فيه علماء السنة إلى أقلية، والحقيقة أنهم علماء تشبيح للنظام، مما ستكون له تداعياته على الهوية السورية، والأغرب أن هذا يحصل في ظل صمت مطبق من مشايخ الأقليات الطائفية الأخرى، مما يعكس رضاهم وقبولهم وترحيبهم بقرار نظام الدمية في دمشق، هذا إن لم نقل إنهم هم من سعوا إليه، ويبقى شاهد المسبحة الأساسي هو الاحتلال الإيراني النشط في تغيير هوية البلد، وأنه هو من يقود كل هذه التغييرات.

الظاهر أن عين الاحتلال الإيراني اليوم على أوقاف أهل السنة التي تقدر ربما بعشرات المليارات من الدولارات، والذي كان قد سبق الأب حافظ أن سطا على جزء من أموالها النقدية فوزعها كرواتب على موظفي الدولة في فترة من الفترات، واعتبرها ديْناً على الدولة، ولكن مات ولم يُعد الدين كالعادة.

وثمة خطر آخر من قرار إلغاء المنصب وهو تداعياته على الأحوال الشخصية، مما يجعل سوريا موزاييك أقليات وطوائف، وليست دولة عربية سنية كما كانت عليه منذ الفتح الإسلامي، إذ من الواضح أن المستهدف اليوم هي الهوية السورية، وتجريف ما يمكن تجريفه اقتصادياً واجتماعياً، في ظل لحظة انتصار للاحتلال الإيراني المدعوم روسياً وأمريكياً، فيستغل المحتل هذه اللحظة في جعل الأمة السنية بلا أنياب، فيدمر حاضرها كما فعل في العراق واليمن. إذ إن كل ما يفعله المحتل الإيراني هو استقواء بعسكرتاريا واحتلال روسي ودعم أمريكي لحْظي في عمر الشعوب والحضارات، وما كان له أن يتجرأ على ذلك لولا الرغبة والرضى الأمريكي الذي يرى حواضر السنة تاريخياً هي من أقلقته وتقلقه.