العدد 1689 /12-11-2025
عبد الباسط سيدا
ظاهرة إيجابية
استثنائية تستوجب التوقّف والتفكير، والعمل للبناء عليها، لأنها ستكون مؤثّرةً
كثيراً في المستقبلين القريب والبعيد في الوضع السوري الداخلي، كما ستشارك في مدّ
الجسور الحضارية بين سورية والعالم المتقدّم، خصوصاً الغربي الأوروبي. وستشمل هذه
الجسور مختلف المجالات الحيوية من اقتصادية وثقافية وفكرية وتربوية وتكنولوجية،
وستشمل أيضاً الجوانب السياسية والاجتماعية، هذا إذا جرى التعامل والتفاعل معها
بموجب رؤية مستقبلية تتمفصل حول المصلحة الوطنية العامة. تتمثّل هذه الظاهرة في
عشرات آلافٍ من الطلبة السوريين الذين درسوا (ويدرسون) في أرقى الجامعات والمعاهد
العليا في مختلف الدول بلغات مختلفة، وحصلوا (ويحصلون) على المعارف المتجدّدة،
وأكثرها حداثةً في نطاق اختصاصاتهم. وأعداد هؤلاء الطلاب مرشّحة للزيادة. فالأُسَر
السورية التي غادرت أوطانها، بعد أن تعذّر عليها الاستمرار في جحيم الأسد، وحصلت
على اللجوء في مجموعة واسعة من الدول، ولا سيّما في أوروبا الغربية (في ألمانيا
والسويد وهولندا وفرنسا على وجه التحديد)، بالإضافة إلى الأُسَر التي انتقلت إلى
الدول الأخرى ومنها كندا والولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا وغيرها... هذه
الأُسَر التي اندمجت وتفاعلت مع مجتمعاتها الجديدة، لن تعود في المدى المنظور،
بناءً على ظروفها وظروف البلد الحالية، إلى وطنها الأصلي، بل ستبقى، وإلى إشعار
آخر، في أوطانها الجديدة، وربّما لن تعود إلى الأبد. وهذا فحواه أن أبناءها
وبناتها سيسيرون على خطى أشقّائهم وشقيقاتهم؛ سينتسبون إلى الجامعات والمعاهد
العلمية المتقدّمة، ويحصلون على المؤهلات والخبرات العلمية. وهذا معناه أننا سنكون
في غضون سنوات قليلة مقبلة أمام ظاهرة سورية جديدة إيجابية واعدة بالمقاييس كافّة:
أعداد كبيرة من الخريجين الذين يمتلكون كامل المؤهلات في مجالات اختصاصاتهم،
ولكنهم، في الوقت نفسه، يمتلكون فكراً نقدياً تعلّموه، وتدرّبوا عليه، وأتقنوه من
خلال مناهجهم الدراسية، واطلعوا على تطبيقاته عبر وسائل الإعلام ذات المصداقية.
كما مارسوه فعلياً في إطار العمل الجماعي مع الفريق في حواراتهم ومناقشاتهم مع
زملائهم وأساتذتهم في الجامعة والمؤسّسات العلمية، وضمن الأحزاب والهيئات
والجمعيات التي انتسبوا إليها في الدول التي اكتسبوا جنسيتها.
وقد تمكّن القسم
الأغلب من الخرّيجين من الحصول على الوظائف والأعمال التي تتناسب مع درجاتهم
العلمية ومؤهلاتهم. هناك اليوم أعداد لافتة من الشباب السوريين ممّن يعملون في
المستشفيات والصيدليات والمصانع والمؤسّسات التعليمية والشركات، وحتى في مجالات
القضاء والعقارات والتجارة والشرطة والجيش والدبلوماسية، وضمن البرلمانات
والبلديات، وغير ذلك من وظائف ومهن حيوية أكسبتهم خبرات واسعة يمكن الاستفادة منها
على المستوى الوطني السوري العام في سائر الميادين والاختصاصات، ولكن بشرط وجود
مؤسّسات تستوعبهم بصورة عقلانية، وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بموجب
قوانين واضحة تحدّد المسؤوليات والصلاحيات، وتفسح المجال أمام الحلول الإبداعية من
خلال احترام التفكير النقدي وتنميته. هذه المجموعة الشبابية من الأكاديميين
السوريين الشباب في دول المهجر ستكبر، وستكسب المزيد من المعارف والخبرات، وستحصل
على فرص أكبر. وهي مجموعة مرتبطة، على العموم، بوطنها الأم، تعتزّ به وتتفاخر،
فأفرادها معظمهم ممّن ينتمون إلى أُسَر ناهضت حكم آل الأسد المستبدّ الفاسد على
مدى أكثر من نصف قرن، وتعرّضت نتيجة ذلك للاضطهاد والملاحقة، وتحمّلت الفقر
والتشرّد وعذابات الغربة. كما يتابع أفراد هذه المجموعة تفاصيل أخبار الوطن بفضل
التطوّر الهائل في ميادين الاتصالات والإعلام، ومن خلال زيارات كثيرين منهم أرض
الوطن، حيث يتفاعلون مع زملائهم وأقربائهم هناك، وهم أصلاً لديهم رغبة صادقة قوية
في المساهمة بعملية النهوض في سورية، والعمل من أجل ازدهارها، وبناء الجسور
الاقتصادية والعلمية والبحثية والثقافية بينها وبين الدول المتقدّمة، وبناء
الشراكات المستقرّة الحقيقية التي ترتكز على المصالح المشتركة المتبادلة، واحترام
قواعد التعامل بين الدول ذات السيادة. كما يمكن لأعضاء هذه المجموعة أن يتبادلوا
المعارف البحثية والخبرات عبر المؤسّسات مع أشقائهم الأكاديميين الذين درسوا
وتخرّجوا في الجامعات والمعاهد الوطنية. وذلك كلّه سيكون في صالح البلد وأجياله
المقبلة.
وحتى تتم
الاستفادة من الأكاديميين وأصحاب المؤهلات والخبرات السوريين الشباب في الخارج على
الوجه الأمثل، هناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى وجود بنية تشريعية مناسبة، وعقلية منفتحة مرنة
استيعابية، ورؤية استشرافية مستقبلية، وآليات سلسة واضحة جاذبة لا طاردة. آليات
تطمئن ولا تثير الهواجس، بل تعزّز الثقة، وتشجّع هؤلاء على التفكير في الانتقال
إلى الوطن في مختلف المناسبات، والبقاء فيه، ولو بصورةٍ مؤقّتة، من أجل الاطلاع
على المشكلات والإمكانات، وتنظيم اللقاءات بينهم وبين زملائهم في مختلف الاختصاصات
في الوطن، ليتمكنوا من بناء العلاقات، والدخول في حوارات علمية معمّقة، ومشاريع
بحثية تنموية مثمرة.
ومن شروط تشكّل
البيئة الجاذبة يأتي الوضع الأمني في المقدّمة؛ فما لم يكن هناك استقرار مجتمعي،
وتوازن إداري، وشفافية واضحة في تحديد الحقوق والواجبات بموجب القانون، وضبط أمني،
وما لم تكن هناك ثقة بالمؤسّسات الأمنية للحكومة وقدرتها على أداء أدوارها أو
دورها بحرفية متقنة، وحيادية أكيدة ترتكز على قوانين واضحة صارمة لا تفسح المجال
أمام أيّ التفاف أو تأويل يؤدّي عملياً إلى إفراغ القوانين والقواعد المعلنة من
مضامينها... ما لم يكن ذلك، فلن يكون هناك أمان واستقرار، وبالتالي لن تكون هناك
عودة مستدامة، أو زيارات منتظمة مستمرّة إلى الوطن من الكفاءات السورية الكفوءة في
الخارج.
بالإضافة إلى
الشرط الأمني، هناك شروط أخرى لا تقلّ أهمية؛ منها القطع مع عقلية الاحتكار
والإقصاء التي تهيمن راهناً على عملية اتخاذ القرارات الخاصة بالتعيينات التي
تؤدّي في معظم الأحيان إلى التخبّطات، وتتسبّب في مفاجآت غير سارّة تُعالَج
أحياناً بقرارات أخرى مرتجلةٍ تزيد الوضع تعقيداً، وتارّة أخرى بتصريحات، وربّما
بقرارات، تحاول ترطيب الأجواء وتهدئة الأمور، ولكن من دون الاستناد إلى خطّة
متكاملة تنمّ عن وجود عقلية مؤسّساتية تستند إلى برامج واضحة. فغياب الكفاءات
المتمرّسة القادرة المخلصة غير الفاسدة عن مراكز القرار في المؤسّسات الاقتصادية
والتعليمية والصحّية وغيرها، لا يعطي دفعةً قويةً مطلوبةً لعملية الاستفادة من
الخبرات المعنية، بل يؤدّي إلى كبحها، وعرقلة جهود الساعين إلى تلك الخبرات التي
تستطيع، بفضل رؤيتها المستقبلية الاستشرافية، وضع خطّة تكامل بين خبرات الشباب
السوري في الداخل والخارج، بهدف النهوض بالمؤسّسات المشار إليها، وهي مؤسّسات لا
يمكن لأيّ نهوض حقيقي للمجتمع أن يتحقّق من دون قيامها بمهامها على أفضل وجه ممكن.
وفي جميع
الأحوال، يبقى الفساد العدوَّ اللدودَ، والخطر الداهم لأيّ توجّه جادّ يرنو نحو
نهضة حقيقية في سائر المجالات. فالفساد يبتلع المواردَ، ويبدّد الثقة، ويصفّر
المصداقية، ويفتح المجال أمام الطاقات السلبية وشرورها. والفساد في منطقتنا،
وسورية ليست استثناء، متجذّر له قدرة عجيبة على التلوّن والتكيّف والتفاهم مع
الشركاء، سواء من الفاسدين القدامى أم الجدد. ولقد أثبت الشباب السوري، خلال العقد
الماضي، قدرته على الاندماج والإبداع في المجتمعات التي انتقل إليها بعد الثورة.
وهناك نماذج حيّة واقعية يعتزّ بها كلُّ سوريٍّ في مختلف البلدان. وكان ذلك بصورة
أساسية بفعل توافر المؤسّسات الفاعلة في جميع المجالات، وضمان الحريات الفردية
الأساسية، لا سيّما حريات التعبير والنقد والتواصل والتنظيم. فالحرية هي أساس كل
إبداع. ولنا تجربة مريرة في سورية تثبت هذا الأمر. فبعد أكثر من ستّة عقود من حكم
العسكر، الذي أتحفنا بالشعارات التجييشية التضليلية الكبرى، التي كانت وسيلة
للانقضاض على سورية بشعبها ومواردها، ها نحن أمام هذا الحطام البائس الذي يحيط بنا.
لقد شارك
السوريون جميعاً، باستثناء فئات من سائر المكوّنات المجتمعية استفادت من الاستبداد
وفساده، بتضحياتهم وصبرهم وتحمّلهم، في التخلّص من طغيان وجرائم سلطة آل الأسد
وقرفها وفسادها. ومن حقّ الجميع الحصول على فرصةِ المشاركة والمساهمة في بناء دولة
تطمئن السوريين من جميع الانتماءات والتوجّهات، وفي سائر الجهات، ومن دون أيّ
تمييز. من حقّ السوريين (ولمصلحتهم ككل) أن تكون هناك سلطة تعمل وفق خيارات الشعب
بموجب ضوابط قانونية ديمقراطية تمنحها الشرعية. وكل خيار آخر سيُذكّر السوريين
بأيام ونتائج الانقلابات العسكرية التي بدّدت موارد سورية البشرية والطبيعية،
وتسبّبت في معاناة كارثية للبشر والشجر والحجر. والمثل السوري يقول: "الواحد
بيتعلّم من كيسو".