العدد 1387 / 20-11-2019

لقد بات متوجبا الولوج الى الموضوع السياسي اللبناني من باب الأكثرية والأقلية النيابية والحكومية ، حيث تتداخل المراحل ويتشابه السلوك بين الأطراف المتنازعة على وقع التطورات والأحداث . فمنذ عام ٢٠٠٥ خضع الصراع السياسي في لبنان لقانون الأكثرية الأقلية وهذا ما لم يكن حاصلا من قبل في نظام ما قبل الطائف وفي فترة النفوذ السوري المباشر على الساحة اللبنانية . ففي جمهورية ١٩٤٣ أو مرحلة ما قبل الحرب الأهلية وإتفاق الطائف كانت الخارطة السياسية مفتتة لا تسمح بوجود أكثرية وأقلية وكانت سطوة رئيس الجمهورية المعززة بالصلاحيات الواسعة تلعب دورها الحاسم في كثير من الأحيان .

أما في مرحلة النفوذ السوري المباشر (١٩٩٠- ٢٠٠٥) فان دمشق كانت هي التي تؤثر بشكل فعلي بميزان القوى السياسي المحلي . حتى وصلت الأمور الى ولادة معسكرين سياسيين كبيرين في ٨ و١٤ أذار ، كانت فيه الأكثرية مائلة الى قوى الرابع عشر من أذار إثر إنتخابات ٢٠٠٥ النيابية . وقد تمكن المعسكر الآخر من تضييق الفجوة لاحقا بعد تيقن الجنرال ميشال عون من أن حلفاءه في ١٤ أذار ليسوا في وارد إيصاله الى سدة الرئاسة الأولى ولو كبديل للرئيس إميل لحود الذي كان يمضي فترة التمديد الجزئية بين ٢٠٠٤ و٢٠٠٧ . وقد تم تضييق تلك الفجوة عبر صياغة تفاهم سياسي بين التيار الوطني الحر وحزب الله الذي وقعه الجنرال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في ٦شباط ٢٠٠٦ . وبات الفرق بين المعسكرين النيابيين أقل حجما من ذي قبل . حينها عمد فريق الأقلية ممثلا بمعسكر الثامن من أذار الى تعطيل المجلس النيابي ما أمكن له ذلك بعد أن عجز عن تعطيل العمل الحكومي المناهض له من خلال إستقالة وزراء حزب الله وحركة أمل وحلفائهما . وهذا ما ولد الحاجة لدى قوى الثامن من أذار الى المطالبة بالثلث الضامن أو المعطل في محادثات مؤتمر الدوحة في أيار من عام ٢٠٠٨ . وقد تمكن هذا المعسكر من تأخير الإنتخابات الرئاسية في خريف عام ٢٠٠٧ الى حين التفاهم على إسم رئيس جديد للجمهورية وعلى ولادة تسوية سياسية كاملة في الدوحة في أيار من عام ٢٠٠٨.

أما في " عصرنا " الحالي وبعد إنتقال الأكثرية النيابية الى معسكر الثامن من أذار إثر إنتخابات ربيع ٢٠١٨ ، فإن الأقلية النيابية باتت في عهدة قوى الرابع عشر من أذار التي وصلت الى تلك الإنتخابات وهي في حالة شرذمة وتبعثر . وبعد مرور أكثر من سنة ونصف على تلك الإنتخابات المفصلية التي قلبت موازين القوى ، وجدت قوى الرابع عشر من أذار نفسها مدعوة الى تكرار لعبة التعطيل التي مارستها من قبل قوى المعسكر الآخر . فتم العمل على دفع الرئيس سعد الحريري الى الإستقالة تحت إغراء كسب جماهير الحراك الشعبي القائم منذ أكثر من شهر من الزمن . ولم يكتفي الحريري بالإستقالة بل إنه رفض ويرفض العودة الى سدة الرئاسة الثالثة إلا في حال سمح له أن يشكل حكومة تكنوقراط خالية من القوى السياسية ، ما عطل عملية التبديل الحكومي في ظل إصرار بعض النافذين في قصر بعبدا على عدم إجراء الإستشارات النيابية الواجبة دستوريا إلا بعد أن يتم الاصلاح على التشكلية الحكومية مع أي رئيس مكلف . ثم امتدت عملية التعطيل التي تقوم بها الأقلية النيابية الحالية الى جلسات المجلس النيابي المخصص بعضها الى إنتخاب اللجان النيابية ، وقامت كتل المستقبل والقوات اللبنانية واللقاء الديموقراطي والكتائب بمقاطعة الجلس الأخيرة للمجلس النيابي بالإستناد أيضا الى موقف الحراك الشعبي المعارض لإنعقاد المجلس النيابي قبل إجراء الإستشارات النيابية الملزمة وحتى تشكيل الحكومة الجديدة وفق ما ورد في مواقف الحراك المشار اليه .

وهكذا يتبين لنا كيف أن القوى السياسية اللبنانية تتبادل الخبرات والأدوار في مراحل التقلب السياسي ، فتعمد الأقلية على سبيل المثال الى تعطيل العمل الحكومي او النيابي أو حتى إحداث فراغات دستورية لفترة من الزمن ريثما يتم إستيلاد معطيات جديدة تبدل في الأوضاع وفي موازين القوي ... حتى يتسنى لقوى جديدة تتبوأ موقع الأقلية فيكون لها شرف القيام بمهام التعطيل والتنغيص على الأكثرية بحجة إستمتاعها بالسلطة.

قد يقال ، إنك تنظر الى الموضوع من زاوية القوى السياسية الكبرى ، فأين ذهبت بالجماهير المحتشدة التي تملأ الساحات والميادين وتعلي الأصوات والمواقف ؟ أين الوقائع الجديدة والمعطيات الثورية الحديثة التي تتوهج أحلام شبانها وتكبر آمال فرسانها ؟

للميادين والساحات أهازيجا الجميلة ورؤاها المبدعة وتطلعاتها الحالمة ، ولكن الممسكين بالساحة ما زالوا في حصونهم غير المهددة ... وأكبر دليل على ذلك هو تحول الهدف المرحلي للثورة في الأيام الماضية من إسقاط نظام وما شابه الى التسريع بإجراء إستشارات نيابية وإستثناء متعمد لقاعدة ( كلّن يعني كلّن ) التي برزت في أيام الحراك الأولى .

ايمن حجازي