ساري عرابي

احتفلت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الرابع عشر من شهر كانون الأول الجاري بالذكرى التاسعة والعشرين لانطلاقتها، وفي الوقت نفسه شرعت تستعد لدورة انتخابية جديدة تبدأ في نهاية الشهر نفسه، ثم تستمر حتى آذار القادم، ومن المتوقع أن يكون تخلي خالد مشعل عن موقعه رئيساً للحركة، وبالتالي صعود شخصية أخرى لرئاستها، أبرز نتائج هذه الدورة.
عشرون عاماً ومشعل على رأس الحركة، وقبلها ما يقارب الخمسة عشر عاماً وهو مفرغ لمهمات قيادية في جهاز فلسطين المنبثق من تنظيم بلاد الشام الذي كان يضم حتى وقت غير بعيد فرعي جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وفلسطين. هذه الفترة الطويلة تجعل من التغيير المتوقع في قيادة الحركة أمراً بالغ الأهمية، ولا سيما أن كوادر الحركة وعناصرها امتلكوا انطباعات وأفكاراً عن الشخصيات المرشحة لتسلّم هذا الموقع.
تحولات كثيرة جرت منذ تأسيس حماس، في هذا العالم الشديد الترابط والتفاعل، كان من أخطرها إنهاء الانتفاضة الأولى باتفاقية أوسلو، وتَجسد هذه الاتفاقية حقيقة واقعة في صورة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وبالرغم من تعرض الحركة لحملات اجتثاث قبل ذلك، فإن هذا التحول السياسي الكبير في الواقع الفلسطيني كان من أشد ما أربك الحركة وأدخلها في سجالات داخلية.
ويمكن القول إن الانتفاضة الثانية، ثم الانتخابات التشريعية التي فازت بها الحركة قبل أكثر من عشر سنوات، هما من أهم المحطات في مسيرة حماس بعد محطة التأسيس التي تزامنت مع انفجار الانتفاضة الأولى، فقد انتشلتها الانتفاضة الثانية من حالة العجز ومراوحة المكان الناجمة عن وجود السلطة الفلسطينية التي قطعت مسيرة الانتفاضة الأولى، وفرضت على حماس استهدافاً مركزاً شل الحركة إلى حد ما، ولا سيما أنها مستهدفة أساساً بضراوة من الاحتلال.
من الطبيعي جداً أن تمد الانتفاضة الثانية حركة مقاومة بمزيد من أسباب الحيوية والفاعلية، فلم تسترد حماس عافيتها وتعيد جمع كادرها لتكون أكثر الفصائل الفلسطينية فعلاً مقاوماً وإثخاناً في الاحتلال فحسب، ولكنها استفادت من ذلك على نحو خاص في قطاع غزة بما أسس لبنية حماس القائمة الآن في القطاع.
وبينما أعاد الاحتلال اجتياح الضفة الغربية عام 2002 في العملية التي عُرفت باسم «السور الواقي»، فإنه لم يفعل الشيء نفسه مع قطاع غزة، وإنما استكمل انسحابه من القطاع عام 2005، الأمر الذي مكن الحركة من تعظيم تنظيمها وجهازها العسكري في قطاع غزة، بينما كانت نتائج الانتفاضة الثانية عليها في الضفة مختلفة تماماً.
ألقت حماس في الضفة الغربية كادرها كله في أتون الانتفاضة الثانية، وفي بيئة أمنية لا تتيح للحركة استيعاب الضربات سواء كانت اعتقالاً أو اغتيالاً، وقد كان هذا واقع الضفة الغربية دائماً حتى بعد مجيء السلطة الفلسطينية التي لم تبسط سيطرتها الأمنية في الضفة إلا على مناطق محدودة جداً، ومعزولة عن بعضها.
ومع أن نتائج حركة حماس بالضفة الغربية في الانتخابات البلدية أو التشريعية التي أجريت قبل عشر سنوات كانت كاسحة، فإنه لم يكن مقدراً لها أن تحافظ عليها في الضفة، بينما استطاعت أن تفعل ذلك في غزة، ومن ثم وُجدت على أساس ذلك تباينات جديدة في الظروف الحركية الداخلية بين أقاليم ومواقع الحركة.
صحيح أن الانتخابات التشريعية شكلت رافعة جديدة لحماس، ضاعفت من شرعيتها إقليمياً ودولياً، وجعلتها أكثر قدرة على المساهمة في مسار القضية الفلسطينية، إلا أنها دفعت ثمن ذلك حصاراً وحروباً دامية في قطاع غزة، بينما دفعت ثمنه بعد الانقسام عمليات استئصال واجتثاث ممنهجة في الضفة الغربية.
على المستوى الوطني شكلت حماس امتداداً مستمراً للكفاح الفلسطيني، وإذا كانت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 إحدى أهم محطتين كفاحيتين في تاريخ الشعب الفلسطيني، فإن المحطة الثانية هي الانتفاضة الأولى التي وُلدت في رحمها حماس، وبهذا تبقى حماس شكلاً من أشكال استمرار الانتفاضة دون إغفال حركة الجهاد الإسلامي، التي أسهمت في الدفع نحو انفجار تلك الانتفاضة.
وكذلك يمكن القول إن حماس هي الاستمرار الطبيعي للانتفاضة الثانية، فقد بنت عليها حضورها العسكري القائم الذي لم تزل تطوره منذ تلك الانتفاضة، حتى حولت قطاع غزة إلى قاعدة للمقاومة الفلسطينية، خاضت منها عدداً من المواجهات والحروب، وأسرت على أرضها عدداً من الجنود الصهاينة، وانطلاقاً منها قادت صفقة لتبادل الأسرى من داخل الأرض المحتلة لأول مرة في تاريخ الصراع. وهذا ما قطع الطريق على أي فكرة تصفوية للقضية الفلسطينية تحت شعار صندوق الانتخابات، وكرس قدرة الحركة على حماية منجزها العسكري في قطاع غزة بعد الانتفاضة الثانية.
ويتصل بهذه المشكلة، قدرة الحركة على استيعاب وتوظيف قدرات أبنائها في كل المجالات التي تخدم قضيتها ومشروعها، وفحص أداء الأجهزة والمؤسسات المكلفة بهذه المهمة، إذ لا يجوز أن يرتهن هذا الأمر لانطباعات وأمزجة الأفراد القائمين على العمل، أو على قدرات الأفراد في الوصول بأفكارهم إلى حركتهم، وإلا فما قيمة وجود بنية مؤسسية؟!
إن قضية التماسك والولاء شديدة الأهمية بالنسبة إلى حركات المقاومة التي تتصدى لصراع طويل ومرير ومعقد من نوع الصراع الجاري في فلسطين، ولكنها أكثر أولوية وضرورية مع التطور الهائل الحاصل في قدرات البشر التواصلية الناجمة عن التطور التقني وثورة الاتصالات، بما يجعل الأدوات التنظيمية القديمة متخلفة عن القدرة على خلق أنماط أكثر حيوية من التواصل الداخلي واستثمار القدرات الكبيرة التي يتمتع بها أفراد الحركة. وإذا كانت الفكرة الأساسية من دخول حماس للسلطة هي حماية خيار المقاومة، فإن الشعب الفلسطيني في غزة دفع ولا يزال فاتورة أهم إنجازات الحركة على الإطلاق، وهو ما يحتم عليها أن تراجع إدارتها الحكومية، وسياساتها الحركية داخل قطاع غزة، والنظر إن كانت أقرب إلى هذا الشعب وأكثر التصاقاً به وقدرة على إلهامه وإقناعه، وكذلك إن كانت بممارستها تكافئ صمود هذا الشعب واحتضانه لها.