أيمن شريف

أتى أعرابيٌ زائراً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه الشريف بعد انتقاله لربه، فقال له: «يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: >ولو أنَّهم إذْ ظَلَموا أنفسَهُم جاؤوك فاستَغْفَروا اللهَ واستغْفَرَ لهمُ الرسولُ لوجدوا اللهَ توّاباً رحيما<، وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي  مُسْتَشْفِعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشد يقول:
يا خيرَ مَن دُفِنَتْ بالقاعِ أَعْظُمُهُ فطابَ مِن طِيبِهِنَّ القاعُ والأَكَمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكِنُهُ فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ
ثم استغْفَرَ وانْصَرَفَ».
تأتي ذكرى مولد النبي وتحمل معها عجزاً كاملاً عن وصف جنابه الشريف، وعجزاً عن وصف محبته، وعن بيان حجم تلك المنّة الربانية لخلقه بابتعاث النبي للدنيا، وهذا العجز لم يسْلَم منه أحد، فما من واصف إلا قَصَرَ وصفُه عن تصوّرِ وتصوير كمالاته صلى الله عليه وسلم، وكان بعض أصحابه إذا سُئِلوا عنه تكلموا أحياناً بما يسميه أهل اللغة «الألفاظ الوحشية»، وهي الألفاظ التي لا يفهمها إلا عالم بارز أو أعرابي قُحّ وتقال في سياق التبجيل والتفخيم، إذ لا يقدر المتحدث على أن يَقْرِنَ تلك الألفاظ العادية بعظمة المتَكَلَّم عنه فيُضطر للتعبير بأفخم الألفاظ، ومما لا يندرج على ألسنة الناس لرِفعة مقام المذكور، وليْتها أفصحت عما يجيش بالصدور.
والجمال المعنوي «فيه العفاف وفيه الجود والكرم» وذكر هنا من الخصال التي يَنْشُدها أثناء الاستشفاع ليُجمّل الطلب، وربما يناظره قول أحسن المادحين شرف الدين البوصيري الذي كتب بردته ليستشفع بالنبي عند ربه بعدما طال مرضه بالشلل ولما كتبها كرّر إنشادها ودعا وتوسل، إلى أن رأى النبي في منامه فمسح على وجهه بيده المباركة، وألقى عليه بُرْدَة فانتبه من نومه ووجد في نفسه نهضة فقام وخرج من بيته، والمسلمون حتى يومنا هذا يستجلبون البركات بمدحه صلى الله عليه وسلم، إما بالصلاة عليه أو إنشاد شِعر مديحه خاصة بردة البوصيري.
صدحت قلوب المحبين بالتعظيم وبثِّ الوَجْد والشوق للمحبوب، وبقدر سيادة المحبة في المجتمعات ترتقي حضارتهم، وليست المحبة محصورة في قوالب الأجساد، بل مفهومها يتسع اتساع الكون ليشمل كذلك ما في الكون من كائنات، إذ إنهم من آثار المحبوب المطلق، ولذا من حرّكه ذلك الشعور الراقي شَعَّ الحُسْن في كل حركة تصدر في ظله ومن مَدَدِه، ويصير خاطر المحبوب حاضراً، وإشارتُه أمراً، وبَسْمته تعدل الدنيا وما فيها، والأولون حرّكهم الحب للخالق وأشعل جذوته وجود مَرْسُوله بين جنباتهم، فأضاؤوا الدنيا علماً وهدى، وانطبعت المحبة على كل شيء إتقاناً وتفانياً في رفعة الحضارة الإنسانية.
تأتي ذكرى المولد الشريف ولا يتذكر الأتباعُ أمرَ المتبوع بالائتلاف ونبذ الاختلاف، وأمره بالتَّوَادّ ومجافاة التشاحن، بل إنهم يحوّلون ذكراه نفسها ليوم لا يُتقبَّل فيه خلاف مسوَّغ، ويبقى كل معنِيّ بشرذمة أمته واقفاً مباركاً لاشتعال الخلافات أياً كانت أرضيتها: سياسيّة أو مذهبيّة أو فقهيّة أو اجتماعيّة، المهم أن تبقى نار الخلاف موقدة ويلقي أصحاب الدار الحطب فيها بدلاً من إخمادها، ولو أن محبتهم كانت أوسع لَرَحِموا بعضهم ولَتَفهّموا أسباب الاختلاف وحتميّة وجوده بين كل الكائنات.
وتأتي الذكرى ككل عام، يعجز المرء أن يكتب كلاماً متماسكاً عن صاحبها مدحاً أو ثناءً، وتغيب الكلمات والعبارات عن أصل المقصد مداراة للعجز أمام صاحب الكمالات البشرية، ولا يرجو المرء سوى أن يكون بحق من المحبين المشمولين بالجوار في اليوم العظيم.
يا أكرمَ الخَلْقِ ما لي مَن أَلوذُ به سِواكَ عندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ
ولن يضيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي إذا الكريم تَحلّى باسْمِ مُنْتقِمِ
فإنَّ مِن جودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها ومِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ والقَلَمِ