العدد 1546 /18-1-2023

عمار ديوب

مؤشّرٌ غير مسبوقٍ في عالمنا العربي، بدأ الاشتغال عليه منذ 2011. يعالج القضايا الرئيسية من التعريف الذاتي لمستوى التدين، إلى الديمقراطية، إلى أسباب الربيع العربي، إلى الوضع الاقتصادي، إلى تردّي أهمية السلطات التشريعية، وسواها. يتناول الدول العربية منفردة، ومن خلال الأقاليم التي تنضوي فيها، وهي 14 دولة. غابت عنه الإمارات وسورية واليمن وعُمان والصومال، وإذا كانت سورية واليمن مبتليتين بأسوأ أنواع السلطات والخيارات، وليس فيهما استقرارٌ، فالسؤال سيظلُّ قائماً، لماذا لم تستطع الجهات المُشرِفة على المؤشر تغطية بقيّة الدول؛ فهو جهدٌ بحثيٌ، ويُفترض أن تستفيد منّه السلطات وكلّ الفاعلين في العمل السياسي والثقافي وعامّة الناس.

شهدنا أخيراً كأس العالم في قطر، وحضر في أثنائه حُسن الإدارة، كما أقرّت بذلك أغلبية وسائل الإعلام الرصينة وساسة الدول. تناولت أقلام صحافيين كثر موضوع "انبعاث" العروبة، إثر تأييدٍ واسعٍ للمنتخب المغربي، ورُفعت أعلام فلسطين في الملاعب، ورفض المشجّعون العرب إجراء أيّ حواراتٍ مع الإعلام الإسرائيلي. وهذا يعبّر عن الاستقرار المديد لفلسطين في الوعي العربي، وأنّ العرب ليسوا أمماً متعدّدة مختلفة، كما زعمت تيارات فكرية وسياسية بعد إخفاق المشروع القومي العربي أو في أثنائه.

أورَد المؤشّر أن نسبة 80% من المستطلعين يروّن أنَّ العرب أمّة واحدة، وإن تمايزت شعوبها بعضها عن بعضٍ، بينما يرى 17% فقط أنّهم شعوبٌ وأممٌ مختلفة، لكن هل هذا يعني أنّ هناك بعثاً جديداً، كما قد يُفهم من تلك الأراء؟ الحقيقة ليس هناك إلّا فكّرة في الوعي العربي عن وجود روابط بين الشعوب العربية "أمّة واحدة"؛ أمّا الفاعليّة، والإرادة، والقوى السياسية أو سياسات الأنظمة، فليست في وارد الانشغال بالعروبة قضية مصيريّة للعرب، ولا حتى بقضية فلسطين، فقد مرّت اتفاقيات أبراهام بما يشبه الصمت، وكذلك المحاولات المستمرّة لأسرلة القدس، والآن، لا تظاهرات مندّدة بحكومة نتنياهو الأكثر صهيونيّة في تاريخ الكيان الصهيوني. المشكلة أن عدم فاعلية تلك الروابط وتعيّنها سياسيّاً، مع رداءة العلاقات العربية، يعني أن تتحكّم دول الجوار: إيران، وتركيا وإسرائيل، ومن خلفها الدول العظمى، بالعرب فرادى ومجتمعين؛ سوريّة مثالاً.

في مستوى التديّن الذاتي، تبيّن أنّ الكتلة الأكبر عربيّاً هي المتدينة، ونسبتها 61%، والمتدينة جداً 24%، بينما غير المتدينين 11%. هنا يمكن إقامة أواصر الصلة بين المتدينين مع غير المتدينين، لتكون النتيجة تفضيل الأغلبية العربية النظام الديمقراطي 71%، ورفضها كلّ أشكال الحكم، وهذا وارد في المؤشّر، كالسلطوية، والعسكرية، والأحزاب الإسلامية، وحكم الشريعة، وكذلك العلمانية.

أيضاً، رفضت نسبة 65% تكفير من ينتمون إلى أديان أخرى، ودلالة ذلك أنّ هناك تسامحاً تجاههم، ويريدون إقامة نظام سياسي لا يرتبط بالدين، كما أشرنا. ضمن الموضوع ذاته، هناك سؤالٌ محدّدٌ عن علاقة الدين بالسياسة، فكانت النتائج أنَّ 72% يرفضون أن تستخدم الدولة الدين للحصول على التأييد السياسي، وهذا يعني رفضاً كبيراً لسياسات الدول العربية التي بمعظمها تستخدم الدين، وكذلك رفض الأحزاب الإسلامية بكل أشكالها. وقد ورد في المؤشّر أنَّ أعلى نسبة هي في العراق ولبنان، أي في الدول المحكومة بأنظمةٍ طائفية، وشهدت ثورات عربية في الأعوام الأخيرة مناهضة للطائفية، وللإفقار.

هناك نسبة كبيرة ملفتة ترفض تكفير الذين يمتلكون وجهات نظر أخرى في تفسير الدين. دلالة ذلك أنّ التديّن العربي غير متشدّدٍ، ووسطيِّ، ويرفض التسييس، ويتقبل وجهات نظر كثيرة، وهو ما شهدناه في السابق تجاه القومية العربية والشيوعية العربية ومختلف أشكال التيارات الحداثية الغربية منذ دخلت بلادنا، وليست خاصة فقط بتفسير الدين.

النسب الكميّة في "المؤشّر" أكثر أهميّة وأدقّ في تفسير شكل الوعي السائد والمستمر من اللحظات الثورية أو من المواقف المعلنة في ظلِّ أنظمة الاستبداد، حيث لا يستطع الأفراد التعبير أو قد يُدفعون لتبني أفكار وآراء الأيديولوجيا المسيطرة، وبالتالي، قد ينحرف الوعي إلى قضايا أخرى، طارئة، مؤقتة، ومرتبطة بموازين القوى.

صحيح أنَّ النسب الكميّة تستند إلى عيناتٍ لا تشمل كلّ المجتمع، لكنّ العيّنة المدروسة في "المؤشّر" كبيرة، 33,300 فرد، ومن 14 دولة، وهذا يدفعنا إلى القول، كما أشير إلى مسألة العروبة أعلاه، إن هناك عناصر هامة في الوعي العربي، السائد والمستمر، كتأييد الديمقراطية، والعروبة، ورفض الفساد، والتديّن العام غير المتشدّد، ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وضرورة ترشيد وسائل التواصل الاجتماعي، وألّا تكون مصدر المعلومات، وهناك عدم الثقة بالمؤسسات غير المستقلة عن السلطة السياسية، و"المؤشر" يؤكّد انخفاض الثقة بالمجالس التشريعية، ويُعطي ثقة أكبر لمؤسسة الجيش في بعض البلدان. نجمل هنا أنّ تأييد الديمقراطية الواسع يفيد بأنَّ الأصل هنا هو ضرورة الانتقال إلى نظامٍ ديمقراطي، قائمٍ على مسألة التساوي بين الأفراد. وهذا يعيدنا إلى رفض أشكال الحكم القائمة على الأحزاب الدينية أو الشريعة، وبالتالي، تأييد الأغلبية العربية للديمقراطية القائمة على المواطنة، والمساواة بين الأفراد، ورفض تسييس الأديان، سواء من الأحزاب الإسلامية أو العلمانية، والنهوض بالمجتمعات العربية. وكي تستقيم الفكرة أعلاه، نسأل، ونترك الإجابة للقراء: كيف يمكن استثمار نتائج الثورات العربية وكأس العالم في ما ذكرنا؟