العدد 1406 / 25-3-2020

بقلم: رضوان العواضي

يقول الحق جل وعلا في محكم كتابه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

وفي الصحيحين، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" متفق عليه.

وفي الآية بيان مكانة الأشهر الحرم، وحرمتها، وعلى اختصاصها بمضاعفة الثواب والعقاب، كما ذهب الى ذلك جمع من اهل العلم.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام - الى ان قال -: وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً).

ونقل رحمه الله عن قتادة قوله: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً.

واختلف المفسرون رحمهم الله في المراد بالظلم المنهي عنه هنا، وهل هو عام في سائر الشهور، ام خاص في الحُرم منها فقط؟ على قولين.

قال الامام ابن العربي: قوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها، وقيل: المراد بذلك الأشهر الحرم.

واختار البغوي رحمه الله، ان ذلك ينصرف إلى جميع شهور السنة، ونقل ذلك عن ابن عباس.

ورجح الحافظ ابن كثير رحمه الله ان هذا النهي خاص بالأشهر الحرم ثم علل قوله هذا بقوله: لأنه – أي الظلم - آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.

ولعل هذا القول هو الأقرب للصواب، لأن الأشهر الحرم اقرب مذكور يمكن حمل الضمير عليه، كما هو مقرر عند اهل اللغة.

واختلف في المراد بالظلم المنهي عنه فيها، فقيل: سائر المعاصي والسيئات، وقيل: هو استحلال الحرام فيهن وتحريم الحلال.

ولعل الأقرب ان عموم الظلم هو المراد، اذ ان تخصيصه بنوع دون آخر، يفتقر الى دليل، ولأنه لا دليل لمدع التخصيص، فيكون حمله على العموم هو الأولى، فكل ما عصي الله به يتأكد تحريمه في هذه الأيام المباركة، وأعظم الظلم ما كان ذنبه اشد، ووزره أكبر، كالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق، ثم ما يليهما حتى أدنى المعاصي.

واما القتال فيها فاتفق عامة اهلم العلم على جواز دفع العدو وقتاله إذا قاتلنا في الشهر الحرام، واختلفوا رحمهم الله في تحريم الابتداء به.

واختار الإمام القرطبي رحمه الله وجماعة من أهل العلم ان النهي عن قتال المشركين والكفار فيها منسوخ بقوله تعالى: (وقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

فيجوز ابتداء قتالهم في الأشهر الحرم كما في سائر الشهور استنادا الى هذه الآية.

وذهب آخرون من أهل العلم الى عدم النسخ وان ابتداء القتال فيها حرام ولا يجوز، لقوله تعالى: (لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَام)، ولقوله تعالى: (ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ).

وهذا ما اختاره الإمام الشوكاني رحمه الله، ورجحه، وأجاب على من ذهب الى النسخ بقوله: الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم،كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتدأ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع.

ولا يحرم من الصيد في الأشهر الحرم الا ما كان في المسجد الحرام او ما كان في حدوده، وهذا في حق المحرم وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: "لا ينفَّر صيدُها ولا يعضد شوكها"، قال ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى: وإذا منع من التنفير فالقتل أولى.

ويدخل هذا الحكم في المدينة ايضا، ودليل ذلك قول ابي هريرة رضي الله عنه، كما في الصحيحين: "لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين لابتيها حرام".

ويحرم الصيد في حق المحرم بحج او عمرة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه. ولقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً). واما ما دون ذلك من الصيد الحلال فيحل في سائر العام للخلق جميعا.

وما ورد في الندب من صيام الأشهر الحرم من الأحاديث، فضعيف او مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب صيام الأشهر الحرم، واستدلوا لذلك ببعض الأحاديث الواردة، منها قوله صلى الله عليه وسلم -حين سئل عن سبب صومه شهر شعبان-: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ".

قالوا: دل هذا الحديث على أن شهري رجب ورمضان شهراًعبادة وطاعة لا يغفل الناس عنها.

ولأن العمل الصالح يضاعف فيها، فيشرع الصيام لتحصيل الثواب المضاعف.

والأولى لمن أراد صيامها ان لا يتم شهراً منها، لأن ذلك انما يكون في شهر رمضان، ولحديث عائشة كما في الصحيحين: " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ شَهْراً قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ فِي شَعْبَان"َ.

والذي يظهر ان سائر الطاعات تدخل مع الصيام في الفضل، اذا تقرب العبد بها الى ربه في هذه الاشهر المباركة.