أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف قال المستشار البارز لوزارة العدل الأمريكية إن بلاده ليست دولة مثالية. وتحدث عن وحشية الشرطة في تعاملها مع السود، وعن اعتراف الرئيس أوباما بوجود أخطاء في ممارسات الأجهزة الأمنية ووعده بمحاسبة الضباط الذين تورّطوا في الاستخدام المفرط للقوة إزاء المواطنين. وخلال المناقشات فتحت ملفات انتهاكات الحقوق المدنية، والفشل في إغلاق معتقل غوانتانامو، وأساليب التعذيب التي كشف عنها تقرير الكونغرس. كما أثير موضوع مراقبة الإنترنت.. إلى غير ذلك من التفاصيل التي أبرزتها على صفحتها الأولى جريدة الأهرام في عدد الثلاثاء (21/5) تحت عنوان: أمريكا تعترف: لسنا دولة مثالية.
في اليوم الذي سبقه (11/5) أبرزت الأهرام أيضاً أخبار الانتهاكات التي يعلن عنها في الولايات المتحدة، ووصفت المعلومات التي نشرتها بعض الصحف الأمريكية بهذا الخصوص أنها فضيحة جديدة للشرطة الأمريكية، خصوصاً بعدما أعلن المدعي العام في ولاية فرانسيسكو انه شكل لجنة لمراجعة أكثر من ثلاثة آلاف حالة اعتقال لأمريكيين سود خلال السنوات العشر الأخيرة.
لأول وهلة، حين يلاحظ الباحث اهتمام «الأهرام» بإبراز أخبار الانتهاكات والاعترافات التي تقرّ بحدوثها، فإنه لا يستطيع أن يفصل ذلك عن الدور التعبوي الذي تحرص الأهرام على القيام به، إذ المطلوب هو تسويغ ما يجري في مصر، والايحاء للقارئ بأن الانتهاكات تمارس أيضاً في الدول الديمقراطية. ومن ثم فالحال من بعضه، ولا ينبغي أن يقلقنا أو يزعجنا ما تروّج له بيانات الحقوقيين وصيحات المدونين إلا أن للنشر وجهاً آخر يستدعي انطباعات معاكسة، ذلك أن المعلومات المنشورة على ألسنة المسؤولين الأمريكيين المشاركين في مؤتمر جنيف تتيح لنا أن نفهم الحاصل في الولايات المتحدة، في حين نظل عاجزين عن فهم الحاصل في مصر على سبيل المثال. ذلك أن الانتهاكات الحاصلة عندنا لا يتحدث عنها سوى مواقع التواصل الاجتماعي والمنظمات الحقوقية المغضوب عليها، والتي اضطرت للاعتذار عن عدم المشاركة في مناقشة الملف المصري بمؤتمر جنيف حتى لا تتفاقم أزمتها مع السلطة، في حين أن الوفد الرسمي المصري الذي حضر آنذاك تبنى موقف الدفاع عن السياسة المصرية، والانكار للانتهاكات التي تمارسها الأجهزة الأمنية. لقد وجدنا في النموذج الذي بين أيدينا ان مستشار وزارة العدل الأمريكية أدان موقف الشرطة ووحشيتها، والكونغرس أعد تقريراً من خمسة آلاف صفحة عن التعذيب، كما أن أوباما وعد بمحاسبة الضباط المتورّطين في الانتهاكات. وها هو المدعي العام يطلب مراجعة ثلاثة آلاف حالة اعتقال للسود خلال السنوات العشر الأخيرة. بالمقابل، فكل تلك الأمور مسكوت عنها رسمياً في مصر. وأي اقتراب منها يصنف على أنه إساءة للشرطة ووقيعة بينها وبين الشعب وسعي خبيث لإسقاط الدولة.
المشهد يستدعي ملاحظتين: الأولى ان الاعتراف بالأخطاء من علامات الشجاعة وقرائن الصدق في محاولة تصحيحها والتطهر من آثارها. في حين أن الذي ينكر ويداري هو المصرّ على الخطأ الذي لا يعتزم العدول عنه، والأول هو الأجدر بالاحترام والثقة.
الملاحظة الثانية ان الحكم المنصف على أي مجتمع بل على أي شخصية عامة، ينبغي ألا يعوّل على عنصر واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخصية، لأن نظرية البعد الواحد لا تصلح لتقييم أي وضع مركب، ولأنها تركز على بعد واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخص، فإنها غالباً ما تمثل نوعاً من الانتقاء الذي يحجب الأوجه الأخرى.
ما دفعني إلى تسجيل هذه الملاحظة أننا كثيراً ما نبرر بعض سوءاتنا وخطايانا وأوجه قصورنا بدعوى أنها حاصلة في مجتمع آخر، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن وجه الخطأ فيه أنه يتجاهل مجمل الظروف والعوامل الأخرى التي تتوافر لذلك المجتمع، بحيث تحاصر تلك السوءات وتقلل من خطرها وتقضي عليها في نهاية المطاف.
إذا دققنا في الأمر فسنجد أن المشكلة أكبر من مجرد الاعتراف بالخطأ وانكاره، لأنها في عمقها وثيقة الصلة بموقفنا من قيمة نقد الذات أو نقد الآخر، التي هي جزء من ثقافة الممارسة الديمقراطية التي نفتقدها. وطالما ظلت الديمقراطية في أزمة، فإن النقد سيظل جريمة دائماً، وسيصبح شعار «كله تمام» هو «النقد البناء» المرغوب والمسموح به.