حازم الأمين

يفترض السياسيون اللبنانيون أننا نحن معشر مواطنيهم مجموعة حمقى، وهم أحياناً يصيبون بافتراضهم هذا وأحياناً يخطئون، ذاك أن واحدنا ليس على سويّة ذكاء متواصلة. نخطئ مرة فيجروننا وراءهم، ثم يعود نفر منا ليحاول تصويب شططه.
ومناسبة حفلة جلد النفس هذه، السجال اللبناني حول ما حصل في عرسال عام 2014، حين أقدم كل من «داعش» وجبهة النصرة على غزو البلدة وأسر حوالى عشرين عسكرياً لبنانياً فيها.
يريد «العونيون» فتح تحقيق بهذه الواقعة بعد انقضاء أكثر من ثلاث سنوات عليها، ويلمحون إلى أن المسؤول عن قرار عدم إقدام الجيش اللبناني على تحرير الجنود الأسرى هو رئيس الحكومة السابق تمام سلام وقائد الجيش السابق جان قهوجي.
لماذا لم يدخل الجيش إلى عرسال؟ الهدف من هذا السؤال سياسي وثأري، لكنه بموازاة ذلك، ينطوي على درجة عالية من استغباء اللبنانيين! الجميع يعرف لماذا لم يدخل الجيش إلى عرسال، فالبلدة حينذاك كانت تضم حوالى مئة وخمسين ألف مواطن لبناني ولاجئ سوري، وقرار الدخول إليها عسكرياً سيعني مواجهة غير مضمونة النتائج، والجيش كما الحكومة لا يتحملان تبعات احتمالاتها، ولا سيما أن الحدود لم تكن واضحة بين مناطق انتشار المسلحين الغزاة، والمدنيين من أهل عرسال واللاجئين السوريين. هذا الجواب البديهي يفتح الباب أمام سؤال ثان حملت الإجابات اللبنانية عنه استغباءً موازياً لعقول اللبنانيين. هل كانت عرسال بمواطنيها ونازحيها بيئة حاضنة للمسلحين الغزاة آنذاك بحيث تمكنوا من التحصن بين المدنيين؟ هناك جوابان عن هذا السؤال، الأول يقول إن المقاتلين الغزاة غرباء عن البلدة، وهم استهدفوا أهلها كما استهدفوا الجيش اللبناني، والثاني يقول إن عرسال بيئة حاضنة لـ«داعش» والنصرة، وإن لعناصر الجماعتين عائلات في مخيمات اللاجئين فيها، وإن مواطنين من عرسال سهلوا عملية الغزو هذه. الجوابان يغفلان الحقيقة، على نحو ما تغفل السياسة في لبنان كل الحقائق.
لمسلحي الجرد المنحدرين عائلات في مخيمات اللاجئين، لا بل إن لبعضهم عائلات من أهل عرسال. ولآخرين منهم عائلات في طرابلس، لكن كل هذا لا يُغفل حقيقة لبنانية تتمثل في أن ما يحصل في سوريا هو أيضاً حرب أهلية لبنانية. ثمة مقاتلون «أهليون» لبنانيون يقاتلون مع فصائل تحارب النظام، وآخرون يقاتلون مع النظام.
أهل عرسال والنازحون إليها ضد النظام في سوريا، وهذه الحقيقة انبنى عليها واقع أهلي وديموغرافي. انبنى عليها أن ثمة عائلات استُقبلت في البلدة بصفتها ضحيّة، وهي ضحية فعلاً، وعلاقات مع مقاتلين في الجرود تحولوا لاحقاً إلى «داعش» والنصرة واستمرت العلاقة معهم. «حزب الله» تعامل مع هذا الواقع ميدانياً، على الرغم من خطابه التحريضي. الأصداء اللبنانية (المسيحية تحديداً) لخطاب الحزب التحريضي حاولت توظيف هذا الواقع في مساعيها الثأرية، مغفلة حقيقة أن أي تسوية بين الجماعتين الأهليتين (الشيعية والسنّية) ستكون هي ضحيّته. صفقة الباصات نموذج عن هذا الاحتمال، ففي ظلها تم إغفال الحق اللبناني في محاسبة قتلة عناصر الجيش اللبناني.
الدعوة إلى محاسبة من يقف وراء قرار عدم زج الجيش في مواجهة أهلية، وظيفتها لا تتعدى تجديد التحريض الداخلي. ولكي نصدّق أن مطلقيها معنيون بمحاسبة المتساهلين بحياة جنودنا، يجب عليهم أن يرفقوا دعوتهم إلى التحقيق بدعوة إلى التحقيق في أسباب وموجبات السماح لقتلة الجنود بمغادرة الجرود بالباصات. وهذا باب للاقتصاص من القتلة، مثلما الدعوة إلى التحقيق باب للاقتصاص من المتساهلين بحياة جنودنا.
في الجزء الأول من التحقيق، يقول تمام سلام إنه مع نشر محاضر اجتماعات مجلس الوزراء لكشف حقيقة ما حصل، أما الجزء الثاني من التحقيق، أي موجبات السماح لقتلة الجنود بمغادرة الجرود سالمين، فهي لدى «حزب الله»، وهذا ما لم يسأله عنه أحد.}