في الوقت الذي جرى فيه إشغال اللبنانيين بأزمات متلاحقة، من الفراغ الرئاسي قرابة ثلاثين شهراً، الى التمديد النيابي أربع سنوات كاملة، إلى العجز عن التوافق على قانون جديد للانتخابات، مما يهدد البلد بالتمديد لمجلس النواب مرة ثالثة، أو الفراغ النيابي. في هذا الوقت ننظر الى العالم العربي من حولنا لنجده غارقاً في هموم وأزمات تهدّد أقطاره بالانهيار الكامل، فضلاً عن الانقسام السياسي والتفتت الجغرافي.
في خمسينات وستينات القرن الماضي كان الشباب العربي يسعى لبناء وحدة عربية أو إسلامية، وقامت بناء على ذلك الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ثم اتحد شطرا اليمن (الشمالي والجنوبي)، وشطرا السودان (الشمالي والجنوبي) كذلك. أما اليوم، وبعد انفصال شمال السودان عن جنوبه، وانقسام اليمن الى أقاليم ومقاطعات، والعراق إلى كردي وعربي، والقطر العربي السوري الى «سوريا المفيدة» والمناطق الآمنة على الحدود مع تركيا والأردن، وانعاش مشاعر الانقسام حتى في مصر بين إقليم النوبة في الشمال وجنوب وادي النيل.. ألا يستدعي كل ذلك وقفة متأنية، من القوى القومية والإسلامية لمحاكمة تجاربهم سواء في الفكر أو في السلطة، بعد أن توجه العالم كله خلال العقود الماضية الى التوحد أو التكامل، بعد معاناة حروب طويلة في القارتين الأوروبية والأمريكية، إذ كانت ألمانيا مقسمة فتوحدت بعد أن كان يفصلها جدار برلين، وكذلك سويسرا واسبانيا، فتكاملت رغم تعدد اللغات والأديان والمذاهب، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي.
لقد بدأ الفكر القومي ينتشر في عالمنا العربي منذ أوائل القرن الماضي، واستطاع «حزب البعث» إقامة جمهوريتي سوريا والعراق في ستينات القرن الماضي على أنقاض دولة الوحدة بين مصر وسوريا، التي انهارت بعد سنوات.. لكن دولة البعث في العراق تحوّلت الى حكم استبدادي وراثي لولدي الراحل صدام حسين: عديّ وقصيّ، أما في سوريا فانحصر الحكم الطائفي الوراثي في «آل الأسد» من حافظ الى باسل إلى بشار، ولا يعلم إلا الله متى وكيف يمكن للشعب السوري أن يتحرر ويقيم نظاماً ديمقراطياً مثل كل شعوب العالم. أما التجربة في ليبيا فكانت أشد قسوة ومرارة، وتمحورت بين القذافي الأب، وسيف الإسلام وقذاف الدم، الى الانقسام الذي كان يسود قبل الأقاليم القديمة قبل أن تتوحد في الدولة الملكية.
ماذا عن التجربة الإسلامية؟ لم يكن الإسلاميون مهتمين كثيراً ببناء الدولة، وانما ركزوا على اشاعة الوعي الإسلامي، وبناء المؤسسات الإسلامية، تربوية وفكرية واجتماعية، وكانت لهم تجربتان دفعوا إليها دفعاً، حققوا فيها نتائج مقبولة، سواء في السودان منذ عام 1989 حتى اليوم، أو في فلسطين حيث حققوا أغلبية نيابية في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، واستطاعوا بذلك أن يحتفظوا بقطاع غزة نظيفاً من الاحتلال، وبحركة مقاومة ما تزال تؤدي دورها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
خلال تجربة ما سمي «الربيع العربي» ثارت الجماهير العربية ضد أنظمتها الاستبدادية، وبدأت الانتفاضة الشعبية في تونس لتمتد الى مصر واليمن وسوريا وليبيا. وعلى الرغم من أن الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمون) في هذه الأقطار لم تخطط لهذه المواجهة، إلا أنها كانت أبرز القوى الثورية التي قادت الجماهير في الشارع العربي، لأن النظام العربي البائد استطاع سحق كل القوى الفكرية والحزبية العربية، ولم يستطع التماسك والبقاء في الساحة العربية سوى التيار الإسلامي. ولذلك فقد دفعت الجماهير هذا التيار الى واجهة الأحداث، سواء عبر الحراك الشعبي أو الانتخابات النيابية والاستفتاءات، فحقق أغلبية في كل من تونس والمغرب ومصر واليمن، ولو أجريت انتخابات نيابية في سوريا أو غيرها لوجدنا التيار الإسلامي في الطليعة، سواء كان جاهزاً لاستلام السلطة وإدارة البلد أم غير جاهز.
وإذا كان البعض يعتبرون تجربة الإخوان المسلمين في مصر فاشلة، فإن مجرياتها وتداعياتها  ما تزال ماثلة في الساحة المصرية. لقد وصلت الحركة الإسلامية الى الحكم ورئاسة الجمهورية عبر انتخابات نزيهة اعترف بها الجميع، لكن لم يسمح لها خصومها في الدوائر العربية أو الغربية أن تستمر أكثر من سنة واحدة، ثم واجهوها بانقلاب عسكري ساندته دول عربية معروفة ودوائر غربية. ومع أن الانقلابيين ارتكبوا أبشع الجرائم وأسقطوا آلاف الشهداء من المدافعين السلميّين عن أول نظام مدني منتخب في تاريخ مصر، فإن عشرات الآلاف من أبناء وبنات الحركة الإسلامية، اضافة الى مجموعات من الشباب المصري، الليبرالي والقومي... يقبعون في السجون، مما اضطر النظام لتحويل بعض المدارس ومحطات المترو الى سجون، بعد أن ضاقت بهم السجون العادية.
كل ذلك لا يعني ان الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي مرتاحة لما سبق أن حققته في مختلف الأقطار، لا سيما في المستوى السياسي والاجتماعي. لقد حققت الحركة الإسلامية نجاحات كبيرة في الميدان الفكري والدعوي، وباتت التوجهات الإسلامية واضحة الدلالة في معظم أقطار العالم العربي والإسلامي، لكن الحركة الإسلامية ترصد بوضوح توجهات عربية وغربية لمواجهة التجربة الإسلامية، وحصارها حتى لا تتاح لها فرصة الوصول إلى السلطة أو تحقيق نجاحات في الميدان السياسي.
ولعل أبرز ما واجهت به الدوائر الغربية والأنظمة العربية الحاكمة الحركة الإسلامية، هو مقولة الإرهاب. وبصمات بعض الأنظمة واضحة في بناء «تنظيم الدولة - داعش» وغيره، خاصة في سوريا والعراق، حيث ساهمت عمليات الإفراج عن عتاة الإرهابيين من سجون الموصل والرمادي في العراق، و«حلب المركزي» وصيدنايا في سوريا.. في تشكيل المنظمات الإرهابية واطلاق يدها في الساحتين العراقية والسورية. ومن يراقب هاتين الساحتين، يَرَى بوضوح بصمات القوى المعادية للإسلام والمسلمين.
نحن في العام 2017، وبامكاننا استرجاع اتفاقية «سايكس - بيكو» قبل مائة عام التي عقدها وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا. وقد عقد منذ أشهر اجتماع ضم وزيري خارجية أميركا وروسيا (كيري ولافروف)، ربما لصياغة اتفاقية جديدة، أو رسم خريطة جديدة للمنطقة، بعدما أصابها وأحاط بها خلال السنوات الأخيرة.}