معروف لدى كل المتابعين للشأن الفلسطيني أن الحركة الإسلامية في فلسطين كانت في طليعة التيارات الفكرية والسياسية التي واجهت المشروع الصهيوني، سواء بانطلاق حراكها الشعبي والجهادي في مختلف مدن الضفة الغربية قبل النكبة عام 1948، أو بدخول مجموعات من شباب الإخوان المسلمين من مصر إلى قطاع غزة عام 1947. وما زالت مقابر شهداء الاخوان ماثلة للعيان في مختلف مدن القطاع، كما هي معروفة في بلدة «صور باهر» قرب مدينة القدس، وفي مختلف المدن الفلسطينية.
وعندما شارك الاخوان المسلمون من مصر وسوريا وشرق الأردن بالمواجهة ضد العدوان الإسرائيلي، وضاقت عليهم السبل في مصر عند توقيع اتفاق الهدنة مع الكيان الصهيوني وحلّ جماعة الاخوان في مصر، كان شباب الاخوان يتسللون الى معسكر قطنا على الأراضي السورية من أجل تلقي دورات التدريب العسكري على أيدي ضباط سوريين ومصريين. ويومها قام الامام الشهيد حسن البنا بزيارة معسكر قطنا السوري دون أن يكمل طريقه الى دمشق، حيث عاد الى القاهرة ليلقى الشهادة بعد ذلك بأشهر.
وتوالت الأزمات والمحن التي تعرض لها الإخوان في غزة، من القرار الغربي (البريطاني الفرنسي الأمريكي) بحل الجماعة، الى صراعهم مع حركة الضباط الأحرار عام 1952، الى المحنة عام 1965، مما دفع بمجموعات من شباب الاخوان والشباب المسلم الى تشكيل حركة فتح مطلع الستينات، وكان في طليعتهم ياسر عرفات وشباب الصف الأول من حركة فتح. وفي عام 1980 خرجت مجموعة جديدة في قطاع غزة وشكلت حركة الجهاد الإسلامي برئاسة الدكتور فتحي الشقاقي.. الى أن تطوّر الحراك الشعبي والجهادي لشباب الإخوان في فلسطين خلال عقد الثمانينات، وصولاً الى بروز حركة المقاومة الإسلامية (حركة حماس) بقيادة الشيخ أحمد ياسين في الضفة الغربية وغزة، حيث أصدرت الحركة ميثاقها الأول عام 1988 وجاء في المادة الأولى منه: «حركة المقاومة الإسلامية: الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها عن الكون والحياة والإنسان، وإليه تحتكم في تصرفاتها.. وفي المادة الثالثة: تتكوّن البنية الأساسية لحركة المقاومة الإسلامية من مسلمين أعطوا ولاءهم لله فعبدوه حق عبادته. وفي المادة الرابعة: ترحب حركة المقاومة الإسلامية بكل مسلم اعتقد عقيدتها وأخذ بفكرتها والتزم منهجها..»، وسبق ذلك في المادة الثانية: «حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة..».
ومرّت الأيام، وبرزت حركة حماس كأكبر تيار سياسي في فلسطين المحتلة، عندما حققت في انتخابات المجلس التشريعي ستة وسبعين مقعداً من أصل 132، في حين حققت حركة فتح 43 مقعداً، أي ما نسبته 57،5٪ لحماس، و32،5٪ لحركة فتح، وذلك عام 2006، مما حتّم تشكيل أول حكومة فلسطينية برئاسة اسماعيل هنيّة، أحد رموز حركة حماس في قطاع غزة.
لكن ماذا عن ميثاق حركة حماس الذي اعتبرها أحد أجنحة جماعة الإخوان المسلمين؟ لم تكن ظروف الحركة تتيح أي فرصة لقيادة الحركة، أو كتائب القسام، أو قيادات الحركة الإسلامية في فلسطين (الإخوان) فرصة لمناقشة الميثاق، نظراً للظروف القاسية التي كانت تعانيها، لا سيما بعد موجة الاعتقالات التي تعرّض لها رموز الحركة وممثلوها في المجلس التشريعي.. الى أن جاءت عملية ابعاد مجموعة كبيرة من رواد الحركة الإسلامية في فلسطين (416) الى منطقة مرج الزهور داخل الأراضي اللبنانية في شهر كانون الأول من عام 1992، حيث شكل المبعدون أوسع شريحة فلسطينية أمضت عاماً كاملاً في مخيم واحد، تجري فيه مناقشة كل القضايا الفكرية والسياسية والتنظيمية، ومنها موضوع «الميثاق»، لكن وجود عدد من واضعي كل بنود الميثاق في عداد المبعدين، جعل من المتعذر صياغة ميثاق جديد، أو اجراء أي تعديل فيه، لأنهم كانوا يشكلون رموز الصف الأول في الحركة وكبار مؤسسيها، مما جعل من المتعذر تحريك أي حرف أو تقديم وتأخير أي بند من بنوده.
ومرت الأيام، عاد خلالها المبعدون إلى مدنهم وقراهم في غزة والضفة الغربية، استقرت فيها قيادة الحركة سنوات في دمشق، وسنوات أخرى في الدوحة بدولة قطر.. واستمرت ملامسة الميثاق في حساسيتها. لكن مجلس شورى الحركة، وقياداتها في الداخل الفلسطيني والشتات، أتاحوا الفرصة لمراجعة متأنية وهادئة لميثاق الحركة. وقد تأكدت ضرورة أن تجري صياغة ميثاق جديد للحركة، جرى التوافق على أن يجري اعلانه قبل انتهاء ولاية مجلس الشورى، وقبيل انتهاء ولاية رئيس اللجنة التنفيذية للحركة (خالد مشعل)، وقبل اجراء انتخابات الحركة.. وهذا ما جرى.. إذ عقد خالد مشعل مؤتمراً صحفياً في الدوحة مساء الاثنين الماضي، بمواكبة تلفزيونية لقيادات الحركة في قطاع غزة، وأبرزهم اسماعيل هنيّة مسؤول الحركة السابق في القطاع، ومسؤولها الحالي المنتخب يحيى السنوار، حيث جرت تلاوة البيان والإجابة عن أسئلة وسائل الإعلام، سواء في غزة أو الدوحة.
من البديهي أن تكون بعض عناصر الميثاق الجديد مختلفة عما صدر قبل ثلاثين عاماً، ذلك أن الصيغة الجديدة للميثاق أتيحت مناقشتها في نطاق أوسع وأكثر تخصصاً واهتماماً من المجموعة التي أصدرت الميثاق التأسيسي في قطاع غزة عام 1988، لأن حركة المقاومة الإسلامية تعيش ظروفاً مختلفة عما كانت تعيشه وتعانيه في ذلك التاريخ. لكن الحركة لم تتخلّ عن أي ثابت من ثوابتها الفكرية أو السياسية. فهي «حركة مقاومة إسلامية فلسطينية»، وهي «حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية»، هدفها «تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها»، وإذا كانت بنود الميثاق القديم تضمنت ستة وثلاثين بنداً، والميثاق الجديد اثنين وأربعين، فذلك طبيعي وبديهي، لكنه لا يلغي إسلامية الحركة، ولا تأكيدها على تحرير كل التراب الفلسطيني، من البحر إلى النهر.. والله الموفق.}