بعد انقطاع دام لأكثر من أحد عشر عاماً عن انعقاد جلسات مناقشة الموازنة العامة للدولة، تقدّمت «حكومة استعادة الثقة» بمشروع قانون موازنة إلى المجلس لعام 2017، وبدأ النقاش يوم الثلاثاء الماضي بمداخلات النواب وكلماتهم في الهيئة العامة لمجلس النواب وأمام عدسات الإعلام التي تولت نقل الكلمات إلى كل بيت في لبنان وعبر العالم. وقبل الخوض في هذه المسألة، لا بدّ من التذكير بأسباب الانقطاع الذي حصل خلال السنوات الماضية.
بعد عدوان تموز 2006 ولأسباب معروفة لكل اللبنانيين على خلفية الانقسام العمودي الذي كان قائماً، انسحب وزراء «حزب الله» وحركة أمل من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وجرى الترويج حينها لشعار مفاده أن الحكومة باتت غير ميثاقية، لخروج ممثلي مكوّن أساسي على المستوى المذهبي منها، ولكنها لم تفقد دستوريتها لأنها ظلّت تتمتع بثقة المجلس النيابي حينها، وقد نظر الفريق الذي اعتبر الحكومة «لاميثاقية» إلى كل القرارات التي صدرت عنها على أنها غير قانونية، لا سيما القرارات المالية. كما تمّ يومها تحت عنوان ممارسة حكومة «لاميثاقية» لدورها إغلاق أبواب المجلس النيابي وتعطيل عمله، وهذا ما عطّل الحياة العامة في البلد، وكان لا بدّ للحكومة من العمل ومن تصريف الأعمال على أقلّ تقدير، وقد أدّى قيامها بهذا الدور إلى صرف مبالغ مالية اعتبرها الفريق المنسحب منها قرارات غير قانوينة غير مقبولة، ورفض بعد التسوية التي حصلت في الدوحة شرعنة هذه القرارات والاعتراف بها، وذلك من خلال التوقيع والمصادقة على قطع الحساب، لأن الحكومات في غياب الموازنات تعمل وفقاً لصيغة الصرف المعتمدة شهرياً والتي تعرف بقاعدة «الأثني عشرية» أي توزيع الصرف على عدد أشهر السنة، وقد جرّ هذا الموقف تعطيلاً لعمل الموازنات طوال الفترة الماضية، وظلّ معلقاً لأن الطرف الذي خرج من حكومة الرئيس السنيورة ظلّ متمسكاً بموقفه لناحية رفض إجراء قطع الحساب، وبالتالي كانت الأمور تسير وفقاً للصرف الشهري دون سقف مع ما يعنيه ذلك من هدر وفساد ومحسوبية وغياب للرقابة والمحاسبة والمساءلة، وكل هذه المعاني التي تؤذي بشكل رئيسي الفئات الشعبية الفقيرة.
اليوم قضت التسوية السياسية التي جرت بين القوى السياسية الكبرى بتعليق العمل بمادة من مواد الدستور التي تلزم عند تقديم وإقرار موازنة لأي عام تقديم قطع حساب عن السنوات أو السنة التي سبقت، وبالتالي فإن هذا التعليق على الرغم من عدم دستوريته – كما يقول  بعض الفقهاء الدستوريين – إلا أنه شكّل حجر الزاوية في حل هذه المعضلة لإقرار موازنة عامة لعام 2017 لأن المجلس الدستوري عندما قارب قانون الضرائب اشترط للموافقة على دستوريته إقرار موازنة. ومن المؤكد أن إقرار أية موازنة، بغضّ النظر عمّا يمكن أن تتضمنه، أفضل من عدم وجود أي موازنة، لأن الحدّ الأدنى أن الوزارات ومؤسسات الدولة ستصبح بسقف مالي، كما ستكون ملزمة بالإنفاق وفقاً للمخطط المالي، وسيكون هناك إمكانية للمساءلة والمحاسبة، وهذا بالطبع يحدّ من حجم الفساد والمحسوبية والهدر القائم والموجود في المؤسسات. فهي خطوة إيجابية بغض النظر عن أي شيء آخر، وهي خطوة تؤكد أن المؤسسات عادت تعمل من جديد، وهو أيضاً يعطي أملاً للمواطن اللبناني بإمكانية تحسّن الظروف والحالات.
إلا أن المفارقة تكمن في أن معظم مداخلات النواب خلال جلسات المناقشة كانت بعيدة عن أرقام الموازنة وما قدّمته في هذه الوزارة أو تلك، في هذه المؤسسة أو غيرها، لهذا الموضوع أو لغيره. كانت المداخلات، للأسف أشبه بمهرجان انتخابي استغله النواب وتعاملوا معه بصفتهم مرشحين أكثر مما تعاملوا معه بصفتهم نواباً عليهم مسؤولية المساءلة والمحاسبة وحتى التقويم والتقييم، ولذلك جاءت أغلب المداخلات بعيدة عن الأرقام والمال وتوزيع الثروة أو تقليص الضرائب وترشيد الإنفاق وما سوى ذلك، جاءت تركّز على القضايا السياسية والملفات العادية التي يتم التعامل معها في أغلب الأحيان إعلامياً أكثر مما يتمّ التعامل معها بصورة جدّية حقيقية لمعالجتها. جاءت الكلمات تخاطب عواطف الناس دون أن تلامس مشاكلهم الحقيقية للتخفيف منها، وهذا بالطبع لا يبشّر بكثير خير ولا ينبئ أن البلد يسير بالاتجاه الصحيح. وهذا ما لا يجب على الشعب اللبناني أن ينخدع به ويعيد إنتاج هذه الاصناف مرة جديدة. الفرصة قائمة أمام الرأي العام اللبناني للتعبير عن رأيه ومساءلة ومحاسبة النواب والحكومة وكل الطبقة السياسية، ويجب أن لا يتردد في ذلك حتى لا يظل يدفع الأثمان.}