يدرك المراقبون للشأن اللبناني أن الطبقة الحاكمة في البلد لم تكن، ولن تكون، جادّة في طرح أي ملف تجري مناقشته، سواء في مجلس الوزراء أو لجان المجلس النيابي أو في وسائل الإعلام، وأن نظرية قتل الوقت هي التي تحكم أداء المجلس النيابي (الممدّدة ولايته) أو مجلس الوزراء، وحتى الرئاسة الأولى. وأبرز دليل على ذلك ما يجري في البلد هذه الأيام. فعلى الرغم من التهديد بالتفسخ السياسي، والانهيار الاقتصادي، وتعطيل المؤسسات الدستورية.. فإننا نجد أن ثلث أعضاء الحكومة هم خارج البلد، في زيارات غير ضرورية وتكاد تكون ترفيهية.
فوزير الخارجية جبران باسيل في الولايات المتحدة الأميركية للمشاركة في مؤتمر يعقد في واشنطن لمكافحة الإرهاب، والرئيس سعد الحريري على رأس وفد من تسعة وزراء في القاهرة لتوقيع اتفاقيات تجارية وأمنية، والرئيس ميشال عون في عمّان للمشاركة بالقمة العربية. أما شؤون البلد وأزماته المستحكمة فهي متراكمة ومؤجلة الى مطلع شهر نيسان القادم.
كان قانون الانتخابات هو الذريعة التي يختفي وراءها تأجيل إجراء الانتخابات النيابية، فمدّد مجلس النواب لنفسه مرة وثانية، حتى أتمّ ولايتين كاملتين، سوف تنتهيان في وقت قريب.. فماذا يفعل المجلس؟ كل كبار المسؤولين يصرّحون أنهم ضدّ التمديد، رغم أن رئيس الجمهورية رفض توقيع دعوة الهيئات الناخبة للإشراف على الانتخابات. ما هو البديل؟ القانون المعروف بقانون الستين بات مرفوضاً من الجميع تقريباً، لأن معظم القوى السياسية ترغب في اعتماد قانون جديد يلائم مصالحها الانتخابية ويزيد كتلتها النيابية. هنا دخل البلد في دوامة القوانين، من الأكثري الى النسبي إلى المختلط، وما بين هذه المشاريع من ترقيع وإعادة تفصيل وتركيب.
المعروف والمتداول في حالات كهذه ان تلجأ الحكومة الى تشكيل لجنة مصغرة تدرس مشاريع القوانين، ثم تعيدها الى مجلس الوزراء ليتخذ قراره المناسب، ثم يحيلها على المجلس النيابي. ويبدو أن لجنة ثلاثية وأخرى رباعية حاولت أن تفعل ذلك، لكنها فشلت. والمعروف أننا بلد ديمقراطي، تناقش فيه مشاريع القوانين ثم تحال على المجلس النيابي ليجري التصويت عليها واعتمادها بحسب الأكثرية. لكن ديمقراطيتنا مشوبة بلوثة الطائفية والمذهبية والمناطقية العشائرية، وبالتالي فإن الاحتماء بهذه الذرائع كفيل بأن يعطل أي مشروع قبل أن يصل إلى مجلس الوزراء أو المجلس النيابي. لذلك فإن الطبقة الحاكمة ليست في عجلة من أمرها، ولا بأس عندها أن تتعطل المؤسسات الدستورية وينكفئ الاقتصاد وينهار سعر صرف الليرة اللبنانية، فكل هذه تفاصيل!!
برزت بعد ذلك سلسلة الرتب والرواتب، وعقد مجلس الوزراء جلسات طويلة ومتلاحقة من أجل الوفاء بحقوق كتلة كبيرة من الموظفين، وتثبيت عدد من المياومين أو المتعاقدين. لكن أين يكمن الحل؟ فالبلد يعاني ركوداً اقتصادياً منذ سنوات، لأنه لا يعتمد على الزراعة أو الصناعة، وانما على السياحة والاصطياف، وهذا ما أصابه الجمود بسبب انفلات السلاح واضطراب الوضع الأمني وعمليات اختطاف طالت لبنانيين وسائحين عرباً وأجانب. يضاف إلى ذلك انعكاس تداعيات الحرب الدائرة في سوريا على الأوضاع في لبنان، فقد اضطر لاستقبال أكثر من مليون نازح سوري، اضافة الى من كانوا يعيشون أو يعملون فيه. هنا بدأت موجات من الاضرابات والمظاهرات والاعتصامات في الساحات العامة أو قريباً من السراي الكبير. وقد حاول وزير المالية معالجة الأزمة، كما حاول رئيس الحكومة ذلك، ونزل ليخاطب المتظاهرين على الأرض، لكن شريحة ملحوظة منهم سبق لها أن مارست نفس الأسلوب ضد حكومة الرئيس تمام سلام، وهناك كلام طويل عن جذور هذه الشريحة ومبررات تحركاتها، خاصة أن كثيرين من هؤلاء الذين رشقوا الرئيس الحريري، سبق لهم أن حاصروا مكاتب وزير البيئة السابق وحاولوا اقتحام مبنى رئاسة الحكومة.
لكن ماذا بعد؟ كل الوعود تحط رحالها في شهر نيسان، أوله أو منتصفه، ومعروف ماذا يمكن أن يحمل نيسان معه «أول نيسان» من صدق في الوعد أو في الأداء. والقضية التي قد تتجاوز قانون الانتخاب أو سلسلة الرتب والرواتب هي المنطقة البحرية الجنوبية المتنازع عليها مع الكيان الصهيوني. وقد أعاد الرئيس بري طرح هذا الموضوع منذ أيام حين قال أمام زوّاره: «لقد حذرت مراراً من خطورة هذا الموضوع الذي بحثته وما زلت مع الأمم المتحدة، وتتحمل إسرائيل خطورة أي قضم لحدود لبنان وملكيته البحرية حتى لو كانت بمساحة شبر واحد.. ونحن من جهتنا في لبنان لن نسكت ولن نقبل بأي تنازل عن حقوق شعبنا في هذه الثروة، وهي في مرتبة القداسة.. انها مزارع شبعا البحرية.. وسنتصدى لأي اعتداء إسرائيلي يهدد ثروات لبنان في البر والبحر..»، ومعروف أن الشريط الساحلي المتنازع عليه تبلغ مساحته 863 كيلومتراً مربعاً، والرئيس بري يتحدث عن هذا الملف بصفته رئيساً لمجلس النواب أولاً، وثانياً باعتبار أنه «ابن الجنوب»، والخلاف المتوقع نشوبه سيكون بين لبنان الجنوبي والكيان الصهيوني وجزيرة قبرص، وهذا ما سوف يستدعي اهتماماً لبنانياً واسعاً حول المياه اللبنانية المحتلة، كما كانت وما تزال حول الأراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب، مما استدعى تشكيل صراع عسكري، ومقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أخيراً، هل سيصل لبنان الى حل لإشكالية قانون الانتخاب.. وهل سيعالج أزمة سلسلة الرتب والرواتب؟ بانتظار حل الإشكالية العميقة على ثروتنا النفطية في الجنوب.. كل هذه الملفات تنتظر، وهي مدرجة على جدول أعمال الحكومة، والعهد الجديد.. فهل تجري بعدها الانتخابات النيابية؟!