في سابقات الأيام كانت النقابات العمالية أو الأحزاب السياسية، إذا أرادت التعبير عن رأيها أو المطالبة ببعض حقوقها أو الاحتجاج على قرار حكومي.. تقوم بالتظاهر أو الاعتصام أو إعلان الإضراب.. كان ذلك اليوم يعتبر مشهوداً في الحياة العامة، وكان يجري الإعلان عنه وتحويل مسار السيارات. أما هذه الأيام فقد بات الاعتصام في الساحات أو اطلاق المسيرات في الشوارع أو اقفال الدوائر الحكومية أو المدارس والجامعات، بات كل ذلك شأناً عادياً تمارسه أي مجموعة شبابية أو حزبية دون اذن من أحد، أو إعلان ذلك قبل أيام. وتبعاً لذلك فإن وسائل الإعلام، لا سيما عدسات المصورين، للصحف  والقنوات التلفزيونية فهي تتابع التحركات كي تنقلها للرأي العام اللبناني والخارجي، بصرف النظر عن أهمية الخبر أو ما إذا كان الحدث مرخصاً به أو مجرد رد فعل على شأن عابر لا قيمة له ولا وزن. هذا ما يقع في لبنان، فماذا عن مثل هذه الفعاليات في الساحات العالمية الأخرى؟!
معروف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه ديمتري مدفيديف، يتناوبان على رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وأن روسيا تتحضر لإجراء انتخابات نيابية ورئاسية خلال الأشهر القادمة. لذلك فإن التيارات المعارضة بدأت تحضير أوراقها واطلاق اتهاماتها للنظام الروسي القائم بالفساد واغتصاب المال العام. وإذا كانت عملية التصدي للرئيس بوتين متعذرة نظراً لوزنه السياسي والأمني المعروف، فإن قوى المعارضة توجه سهامها الى الرجل الثاني (مدفيديف) واتهامه باغتصاب أموال الدولة. وأبرز رموز المعارضة الروسية هو الكسي نافالني، الذي وجه دعوات متكررة الى الرأي العام الروسي في مختلف المدن والمحافظات للتظاهر ضد النظام ممثلاً بالرئيسين. لذلك فقد خرجت الجماهير في حوالي ثمانين مدينة وقرية روسية الى الشوارع، رافعة شعارات ضد النظام، مما دفع قوى الأمن للنزول إلى الشوارع واعتقال ما يزيد على ألف متظاهر، بينهم نافالني، وتقديمهم الى المحاكمة، بتهم منها «اثارة الفوضى» و«تنفيذ محاولات لاستفزاز الشعب وخداعه»، و«بتلقي مكافآت مالية» للنزول إلى الشارع. وتشير استطلاعات الرأي الى أن المعارضة الليبرالية التي يمثلها نافالني لا تملك أي فرصة لتقديم مرشح قادر على زعزعة موقع بوتين الذي يحظى بشعبية كبيرة، لكن نافالني وأنصاره يأملون باستغلال الاستياء العام من فساد المسؤولين لجذب مزيد من التأييد.
وفي تعليق أصدره الكرملين قال الناطق باسم بوتين «إننا إذ نحترم حق المواطنين في التعبير عن رأيهم، لكن المظاهرات غير قانونية، بعدما أخذ المنظمون المواطنين الى أماكن تجمهر غير مرخصة وغير خاضعة لإجراءات حماية أمنية مناسبة وعرّضوهم للخطر». الى ذلك فقد رفض المتحدث باسم الكرملين دعوات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الى اطلاق سراح المعارضين الذين أوقفوا في التظاهرات.. لا نقبل هذه الدعوات لأن الشرطة تعاملت بمهنية عالية وطبقت القانون بشكل جيد. كذلك فقد أبدت فرنسا «قلقها من حظر الاحتجاجات المناهضة للفساد في روسيا واعتقال مئات المتظاهرين خلالها». أما الرمز الأول في المعارضة الروسية (نافالني) فقد جرى تقديمه الى المحكمة، وأصدرت بحقه حكماً بالسجن خمسة عشر يوماً لاستكمال اجراءات التحقيق والمحاكمة.
وفي فرنسا نفسها، أثار مقتل رجل صيني برصاص الشرطة الفرنسية، موجة احتجاجات واسعة وصدامات في الشوارع، مما استدعى خروج مظاهرات حاشدة في مختلف المدن الصينية. أما في باريس، فقد خرجت اعداد غفيرة من الجالية الصينية في مظاهرات رشقت الشرطة الفرنسية بمقذوفات، وأحرقت سيارة للشرطة الى جانب ثلاث سيارات مدنية أخرى، وأصيب ثلاثة من رجال الأمن بجراح.
أما في عالمنا العربي، ففي مصر يناقش مجلس النواب قانون أصحاب الأعمال والعمال. وقد منح مشروع القانون أصحاب الأعمال «الحق في فصل أي عامل في حال تقاعسه عن أداء عمله، وتوقيع غرامة لا تزيد على عشرة آلاف جنيه عند الاضراب دون التفاوض مع صاحب العمل، وحظر الدعوة للاعتصام أو الاضراب في المنشآت الاستراتيجية أو المتعلقة بالأمن القومي..»، واشترط القانون «ضرورة إخطار كلٍّ من صاحب العمل والجهة الإدارية المختصة، قبل التاريخ المحدد للإضراب بعشرة أيام على الأقل، من خلال كتاب وموصى عليه بعلم الوصول، على أن يتضمن الإخطار الأسباب الدافعة للاضراب، وتاريخ بدايته، ونهايته، وحظر دعوة العمال للاضراب..».
بالعودة الى لبنان، ومسلسل الاعتصامات والاضرابات والتظاهر أمام مؤسسات حكومية وتعطيل العمل فيها.. كل ذلك يجري بموجب قرار ذاتي تتخذه الجهة الداعية للاضراب أو الاعتصام.. سواء كانت هذه الجهة نقابية أو حزبية أو سياسية، أو مكلفة بذلك من وراء الحدود أو من داخلها. وقد راجت مؤخراً عبارة «المجتمع المدني»، الذي يضم شباباً وشابات، لا هوية لهم ولا لون ولا توجّه.. المهم أنهم يمارسون حقهم في الاضراب أو الاعتصام أو التظاهر ضد الدولة والطبقة السياسية الحاكمة التي باتت مستهدفة من الجميع، خاصة أن «المجتمع المدني» يطالب بمكافحة الفساد والتصدي له. والعهد الجديد تجاوب مع هذا المطلب عن طريق انشاء «وزارة دولة» لمكافحة الفساد، دون أن يدري أحد متى وكيف تبدأ فعاليات هذه الحقيبة الوزارية التي تحمل العصا السحرية لمكافحة هذا الفساد.
أما إعلان الاضراب والتظاهر، فهو أفضل ما يستطيع اللبنانيون ممارسته هذه الأيام. ذلك أن هذا الحق هو المؤشر الوحيد الى أن لبنان ما زال بلداً حراً يتمتع فيه المواطن اللبناني بكل حقوقه، بصرف النظر عما اذا كان في المقابل يؤدي واجباته. نحن في لبنان لا نملك صناعة ولا زراعة، حتى السياحة والاصطياف فقدناهما.. ولم يبق لدينا سوى الحرية، نمارسها بكل الأشكال والمناسبات.