العدد 1363 / 22-5-2019
الدكتور وائل نجم

د. وائل نجم

تحوّلت جلسات مجلس الوزراء المخصصة لمناقشة مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2019 إلى ما يشبه طبخة البحص التي لا تنضج. فمع انعقاد كل جلسة تصدر التصريحات من المعنيين في الحكومة وفي ملف الموازنة أنها ستكون الجلسة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة لوضع اللمسات النهائية على المشروع من أجل إقراره في مجلس الوزراء ، ومن ثمّ إحالته إلى المجلس النيابي لمناقشته وإقراراه أيضاً حتى يتحوّل إلى قانون نافذ. ولكن يتفاجأ الجميع أن الجلسة التي كانت أخيرة تتحوّل إلى جلسة عادية، ويقذف المشروع مع نهاية كل أسبوع إلى بداية الأسبوع الذي يليه، ومع بداية كل أسبوع إلى نهايته، وهكذا يستنزف الوزراء أوقاتهم، ويستنزفون الموظفين، والمتقاعدين، والمحتجين، والمعترضين، وكل أولئك الذين يملأون الساحات باعتصاماتهم وضجيجهم. فيما يعيش بقية الناس من المواطنين في دوّامة لا يفهمون ما يحيط بهم، وكأنها استراتيجية معتمدة من أجل إشغالهم وإلهائهم والوصول بهم إلى حدود "القرف" والقبول بأي قانون موازنة حتى لو كان سيأخذ من حقوقهم ومكتسباتهم.

إلا أن الملفت والمهم في كل طبخة البحص هذه، إذا صحّ أن نسميها طبخة بحص، أنها كشفت في مكان ما من هم رجال الدولة الحريصون على الدولة ولو بالحد الأدنى، أو ولو من أجل مصالح مقدّرة عندهم لا تتعارض مع مصالح الدولة وإن كانت تأخذ منها، ومن هم الفئويون الذين يقدّمون المصالح الضيقة والخاصة والفئوية الطائفية والمذهبية والمناطقية والحزبية على حساب كل شيء حتى ولو كان ذلك يؤدي، أو يُحتمل أن يؤدي إلى انهيار كل المنظومة.

لقد صرّح وزير المال، علي حسن خليل، أكثر من مرّة أنه أعدّ مشروع الموازنة وأن هذا المشروع قابل للنقاش والتعديلات بل الملاحظات والاقتراحات، وأن هدف الجلسات الحكومية التي تنعقد هو الاستماع إلى الآراء والمقترحات والملاحظات من أجل الأخذ بما يمكن منها لتحسين الموازنة بما يؤدي إلى خفض العجز أو زيادة الموارد، وبالفعل تمّ إدخال الكثير من التعديلات على العديد من بنود المشروع.

إلا أن الملفت، ومن خلال متابعة ما يصدر عن جلسات مجلس الوزراء، وما يصرّح به الوزراء أنفسهم، أن بعضهم مع كل تعديل يتم الاتفاق عليه، ومع كل اقتراح يدرج في مشروع الموازنة، يعود ويقترح تعديلاً على التعديلات، واقترحاً يلغي الاقتراحات التي اعتمدت أو أقرّت. ثم يطرح ملاحظات على بنود تكون النقاشات قد تجاوزتها وتخطها من خلال التفاهم عليها، وهكذا يتحول النقاش الى دوّامة، واللقاءات إلى طبخة بحص مملّة، والحديث في كل شيء بحيث يمكن أن يعود المرء معه في أية لحظة إلى المربع الأول.

آخر هذه الصور التي تؤكد أن اجتماعات الحكومة هي طبخة بحص، مشروع الاقتراحات التي صحا عليها الوزير جبران باسيل، والتي طالت ببنودها معظم بنود مشروع الموازنة. فبعد كل هذه الاجتماعات التي تخطت الخمسة عشر اجتماعاً للحكومة، وبعد كل النقاش الذي جرى، وبعد التعديلات والاقتراحات التي أقرّ بعضها أو كلّها، صحا الوزير جبران باسيل على سيل من الاقتراحات، أو بالأحرى الشروط، التي قدّمها من أجل الموافقة على مشروع الموازنة، وإلا، وبطريقة غير مباشرة، "فلنستمر في طبخ البحص"، وصولاً إلى التلويح والتهديد بالاستقالة من الحكومة، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يملك بيده الاستقالات الخطية للوزراء المحسوبين على التيار الوطني الحر وعلى رئيس الجمهورية، وبذلك يظن أن بإمكانه أن يتحكم بالحكومة، ويفرض الموازنة التي يريد، ليقول للجميع أنا هنا الحاكم الفعلي، ولا بدّ من ممارسة السلطة بما ينسجم مع تطلعات هذا الحاكم.

لبنان لا يحكم بهذه الطريقة، والعهد القوي ليس ذاك الذي يستقوي على الشركاء، والفئوية لم تعمّر بلداً يوماً من الأيام. لبنان اليوم لا يحتاج إلى هذه النوعية من الرجال التي تحركها شهوة السلطة والحكم، وتطمع بالسيطرة والهيمنة على كل شيء، لبنان اليوم بحاجة إلى رجال دولة يقدّمون المصلحة الوطنية لجميع اللبنانيين على ما سواها، يضحّون من أجل لبنان، لا يضحّون بلبنان من أجل فئويتهم، وإلا فإن الاستمرار بهذه الطريقة من سياسة الاستئثار والهيمنة سيقود إلى إنتاج أزمات جديدة قد يكون خطرها أكبر بكثير على الفئوين مما يظنون خطراً يعيشونه اليوم.