منذ سنوات، والعالم العربي غارق في هموم ومشاغل تستهلك وقته واهتماماته اليومية والإعلامية. في هذا القطر حروب وصراعات عسكرية، أهلية أو حزبية. وكان الجميع يقولون بأن صاحب المصلحة والكاسب الأكبر مما يجري هو العدوّ الإسرائيلي، لأن الانشغالات العربية تدور في حلقة مفرغة، ولا تعود على الوطن العربي، أو المواطن العربي بأي خير.
نحن في لبنان، كنا نحمد الله أننا تعلمنا دروساً من أحداث الماضي التي دمرت البلد وأنهكته وتركته تحت عجز مالي ودين عام يتجاوز ثمانين مليار دولار، وربما يحمل مشروع الموازنة التي لم تنجزها الحكومة بعد، مزيداً من الالتزامات والقروض، استرضاءً للرأي العام، وحرصاً من القوى السياسية الممثلة في الحكومة على تحقيق مكاسب شعبية، رغم الفشل الذي تعانيه في مختلف الميادين.
مرّت بنا ثلاث سنوات عجاف، كنا خلالها نعايش مجلساً نيابياً ممدد الولاية، وشغوراً في موقع الرئاسة الأولى (رئاسة الجمهورية) لعجز هذه القوى، أو تعمد أعراضها عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفي ظل حكومة شبه معطلة، كانت تحمل صفة «حكومة تصريف أعمال».. الى أن منّ الله علينا بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة «كاملة الأوصاف» تمثلت فيها معظم القوى السياسية، مع تأكيد الجميع على أن مهمتها الأساسية هي اجراء انتخابات نيابية، بعد اعتماد قانون (عادل ومنصف) للانتخابات النيابية، يعبّر عن التعددية الحزبية والسياسية، بدل القانون الأكثري الذي لفظته معظم القوى السياسية، لأنه قديم ومتخلف ولا يعبر عن تطلعات الشعب اللبناني.
لكن هذا الأمل كان بعيد المنال، إذ إن في خزائن المجلس النيابي سبعة عشر مشروع قانون للانتخابات، ولا يكاد يجمع على واحد منها فريقان من اللبنانيين. وتشكلت لجان نيابية ورباعية، وانعقدت جلسات حوار وطني، لكنها كلها لم تصل الى تفاهم وطني حول صيغة مشتركة، تلتقي عليها القوى السياسية، من الأرثوذكسي الى الأكثري إلى النسبي إلى المختلط وغير ذلك من المشاريع، حتى باتت وسائل الإعلام تضيق ذرعاً بهذه المشاريع، لكثرة ما تتردد على ألسنة السياسيين وفي حواراتهم وسجالاتهم.
في هذه الدوامة، جرى الإعلان عن خبر بالغ الأهمية، أعلنت عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الأحد الماضي، تضمن معلومات عن لقاء سري عقد قبل نحو سنة، وقد ضم اللقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك عبد الله، إضافة إلى وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتن ياهو في منطقة العقبة، ونسبت الصحيفة الإسرائيلية الخبر الى مسؤول أمريكي كبير في الإدارة السابقة. ومرت أيام دون أن يصدر أي نفي عربي لهذا الخير.
لكن البيان الذي صدر عن الرئاسة المصرية، بعد اللقاء الذي عقده الرئيس السيسي والملك عبد الله الثاني في القاهرة، جاء فيه «أن المحادثات بين الرجلين تطرّقت الى «سبل التنسيق المشترك للوصول إلى حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية..». وأضاف المصدر الأميركي أن الزعيمين بحثا «في سبل التحرك المستقبلي في اطار السعي لكسر الجمود القائم في عملية السلام في الشرق الأوسط..»، كل ذلك في غياب أي مشاركة فلسطينية، لا من السلطة ولا من منظمة التحرير ولا أي فصيل فلسطيني آخر. ويتضح مما ذكره الصحفي بارك رفيد -الذي كشف عن لقاء العقبة- أن الإدارة الأميركية هي التي بادرت إلى عقد هذا اللقاء لاختبار مدى جدّية التعهد الذي قدمه نتن ياهو للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أواخر عام 2015 باستعداده للتوصل إلى حل للصراع مع الشعب الفلسطيني في إطار تسوية «إقليمية».
وحسب منطق نتن ياهو، فإنه يمكن أن يكون للدول العربية دور فاعل في التوصل لتسوية سياسية للصراع، بزعم أن ممثلي الفلسطينيين غير جاهزين للتسوية، وأن هناك حاجة لتوظيف روافع الضغط التي تملكها الدول العربية واستخدامها ضد الفلسطينيين لإرغامهم على إبداء مرونة أكبر.
وقد استجاب الأميركيون لطلب نتن ياهو فطلبوا من نظامي الحكم في عمان والقاهرة ترتيب لقاء «قمة» مع نتن ياهو بمشاركة كبرى، ليوفر البعد الإقليمي الذي ينشده رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويشكل في الوقت ذاته مسوّغاً لممارسة ضغوط عربية على الفلسطينيين للقبول بما سيطرحه كيري.
الطامة الكبرى تتمثل في أن المبادرة التي طرحها كيري خلال لقاء العقبة -بعد الحصول على موافقة السيسي والملك عبد الله- ورفضها نتن ياهو على الفور، لا تمثل فقط نكوصاً فجّاً عما ورد في «مبادرة السلام العربية» التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002، بل تمثل تصفية حقيقية للقضية الفلسطينية. فرغم أن المبادرة استندت إلى «حل الدولتين» على أساس حدود 1967، فإنها من ناحية عملية، تضمنت بنوداً تحوّل فكرة الدولة الفلسطينية إلى صيغة مشوّهة لنموذج الحكم الذاتي.
وعند ترجمة هذا البند -استناداً إلى المعايير الإسرائيلية- فإنه يعني استعداداً فلسطينياً للتنازل عن مساحات من الأرض في الضفة الغربية، ترى تل أبيب أن الاحتفاظ بها يُعدّ من الاحتياجات الأمنية لها.
وفي الوقت ذاته، فإن نص المبادرة على «ترتيبات أمنية» تحسّن قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها يعني قبول العرب بأن تكون الدولة الفلسطينية بلا سيادة على حدودها، حيث إن ضمان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يتطلب -وفق المنطق الصهيوني- السيطرة على الحدود مع الأردن.
صحيح أن المبادرة تتحدث عن ضم إسرائيل للتجمعات الاستيطانية ضمن صيغة تبادل أراضٍ تتخلى إسرائيل بموجبها عن أراضٍ لضمها إلى الدولة الفلسطينية.
ولا تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن كيري أبلغ نتن ياهو موافقة العرب على «الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وضمان الحفاظ على طابعها الأساسي». ولا خلاف أن الاعتراف بيهودية إسرائيل يعني تنازلاً طوعياً ومسبقاً عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة للأراضي التي شردوا منها عام 1948.
هذا ما تتجه إليه القضية الفلسطينية، والعرب كلهم غافلون عن مواكبة الحدث. والجميع سوف يفاجؤون الشهر القادم، عند انعقاد القمة العربية في عمان، بمشروع تسوية للقضية الفلسطينية، حاز موافقة مصرية - أردنية وأمريكية، وربما موافقةعرب آخرين.