ما تزال الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من ست سنوات تلقي بظلالها إلى الداخل اللبناني. وإذا كانت تداعيات النزوح السوري إلى لبنان قد أسفرت عن بعض التفاعلات السياسية مؤخراً، فإن ما تخبئه الأيام سوف يترك آثاره على العلاقات السياسية في الساحة اللبنانية، بل في داخل الحكومة التي تتشكل من كل القوى السياسية اللبنانية. فالرئيس سعد الحريري وفريقه السياسي يعتمد موقفاً معادياً للنظام في سوريا، ولا يفتحون أية نافذة باتجاه دمشق أو سفيرها المقيم في لبنان، بينما يعتبر «حزب الله» أنه أفلح في وقف الحرب على لبنان ممثلة بالقوى الإرهابية من خلال الحرب التي يخوضها داخل الأراضي السورية، وأن دفاعه عن المناطق السورية سواء التي احتلتها فصائل المعارضة السورية المسلحة، أو «تنظيم الدولة»، هو الذي منع سقوط النظام السوري، وأوقف تقدم قوى المعارضة باتجاه الأراضي اللبنانية.
وإذا كان التحالف المعقود بين المرشح الرئاسي ميشال عون وحزب الله قد امتد ليوصل «عون» الى رئاسة الجمهورية، فإن هذا التحالف امتد ليعقد حلفاً سياسياً بين الطرفين، على الرغم من أن مبادرة تيار المستقبل ممثلة بالرئيس سعد الحريري هي التي حسمت المعركة لصالح «عون»، وأن رئيس الجمهورية - مدعوماً بأجهزته الأمنية وعلاقاته السياسية - مضطر لأن يواكب حزب الله في علاقاته الاستراتيجية، وخاصة ما يتعلق منها بالساحتين السورية والعراقية.
صحيح أن المشاورات الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية هي التي أفرزت تسمية رئيس تيار المستقبل (سعد الحريري) رئيساً للحكومة، إلا أن صلاحياته لا تتعدى داخل مجلس الوزراء صلاحيات أي وزير آخر، وان الرئيس عون، مدعوماً بتكتل 8 آذار، وسلطته المطلقة على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنيةتجعل يده طليقة في اتخاذ القرار الأمني والسياسي. وإذا أضيف الى ذلك أن جلسات مجلس الوزراء التي تعقد في القصر الحكومي هي مجرد جلسات عمل تحضيرية، وأن الجلسات التي تتخذ القرارات الحاسمة هي تلك التي تعقد في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية.
أما الاشكالية الحاسمة، والتي لم تكن لها سوابق في الصلاحيات الرئاسية، فهي المجموعة الكبيرة من المستشارين -وجلهم من أقرباء الرئيس وأصهرته- الذين يملأون القصر الجمهوري، ويتولون حسم كل القضايا المحالة الى الرئيس، مما جعل صلاحيات الوزراء قاصرة على عناوين حقائبهم، خاصة إذا كانت القضايا محل النظر هي أمنية وذات طابع استخباري.. ورئيس الجمهورية كان يحمل لقب «العماد عون» بينما يحمل قائد الجيش نفس اللقب والرتبة. والرئيس الحريري أمامه جولة أمريكية أوروبية، كان قد ضم قائد الجيش الى الوفد المرافق، لكن معلومات مؤكدة أفادت بأن تعليمات صدرت الى قائد الجيش بأن يتنحى عن عضوية الوفد المرافق، حتى لا يكون محل حسم لعدد من القضايا التي سوف يناقشها الوفد خلال جولته، لا سيما مع الإدارة الأميركية. وإذا كانت هذه الإدارة غارقة في الهموم الخليجية، فإن دوائر واشنطن سوف يكون لديها ما تقوله إزاء الملف السوري وتداعياته خلال المرحلة القادمة.
لكل ما تقدّم، يؤكد المراقبون أن مرحلة التفاهم داخل مؤسسة الحكم في لبنان، لا سيما مجلس الوزراء، قد آذنت بالأفول. فالرئيس الحريري وفريق عمله سوف تكون لهم توجهاتهم السياسية التي لا تلتقي مع الفريق الآخر في مجلس الوزراء، وأن رئيس الجمهورية على الرغم من عدم تبعيته لحزب الله وفريق 8 اذار، فإنه سيكون ملزماً بتوجهات هذا الفريق، خاصة إذا استطاع النظام في دمشق الخروج من الأزمة دون أن يفرّط بموقع الرئيس الأسد وعلاقاته مع لبنان والأردن والعراق، بعد الوعود التي قطعها زعماء هذه الأقطار إزاء الأزمة السورية.
قبل كل ذلك وبعده، ينبغي أن تدرك القوى السياسية اللبنانية أن حكومتهم هي حكومة انتخابات. وإذا كان المجلس النيابي قد مدّد لنفسه أحد عشر شهراً فإن هذه الفترة لا تخرج عن أنها مرحلة الاعداد لانتخابات نيابية بموجب قانون جديد للانتخابات، وأن تيار المستقبل المأزوم انتخابياً عليه أن يسعى لكي يكون منفتحاً سياسياً خلال المرحلة القادمة. وإذا كانت أزمة الخلج العربي قد استهلكت اهتمامات الناس وشدّت إليها أبصارهم، فإن تلك الأزمة قد تكون لها تداعيات تختلف عما يتوقعه الزعماء الخليجيون. وقد تكون العلاقات الخليجية الإيرانية أهم ما يشغل المنطقة، ومنها لبنان. لذلك فإن لبنان لن يكون مجرد حديقة خلفية للأزمة السورية، وانما سيكون ساحة الصراع المتقدمة.
وإذا كانت لتيار المستقبل حساباته السياسية انتخابياً، فإن للتيار الوطني الحر حساباته كذلك، خاصة أن عدداً من الأصهرة بدأ معركته الانتخابية والرئاسية، وعنوانها «الرئيس القوي» أو «المرشح القوي»، فضلاً عن «قائد الجيش القوي» القائم الآن والقادم إذا استقرت الأمور كما يرغب العاملون في «التيار الوطني الحر». لذلك فإن الحملات الانتخابية سوف تكون حامية الوطيس على كل الصعد السياسية والطائفية. والساحة لن تبقى مجرد تحالف مسيحي - شيعي، أو سني، وانما سوف تشهد الساحة المسيحية انقساماً آخر، يشدّ إليه فريقاً مذهبياً آخر، وهذا ما يستدعي لوناً آخر من السجالات السياسية لم تظهر معالمها بعد.
لبنان إذن على مشارف صراعات سياسية حادة، وإذا كانت مبادرات زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري قد امتصت عدداً من الأزمات الحادة، فأوصلت رئيساً للجمهورية الى قصر بعبدا، ورئيساً لمجلس الوزراء الى السراي الكبير.. فإن الصراعات القادمة لن تكفيها مبادرات وتنازلات، وانما تستدعي كشف أوراق على الصعد السياسية والطائفية، قد تقلب المعادلات الفكرية والسياسية، في لبنان والمنطقة.