شهر كامل مرّ على تكليف الرئيس ميشال عون للرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة العهد الأولى. ومثل هذه المدة القصيرة نسبياً بين التكليف والتأليف ليست نشازاً في الأعراف السياسية اللبنانية، خاصة أن التكليف جاء في اليوم التالي للمشاورات الملزمة التي أجراها الرئيس عون، بعد مرور ما يقارب الثلاثين شهراً على شغور موقع الرئاسة ومراوحة لبنان في فراغ دستوري غير مسبوق، وأن الجميع فوجئوا بالمبادرة التي أطلقها الرئيس الحريري، وانعقاد المجلس النيابي بعدها لانتخاب رئيس للجمهورية.
لكن ماذا بعد؟ وإذا كانت المشاورات التقت في ما يشبه الاجماع على تكليف الرئيس الحريري بتشكيل الحكومة، فإن لكل كتلة نيابية حساباتها ورغباتها وطموحاتها بأن يكون لها موقع متقدم في حكومة  العهد الجديد، وهذا ما جعل الشعب اللبناني يضيق ذرعاً بما يجري، خاصة أن الجميع كانوا يتوقعون عقد لقاءات مع رؤساء الكتل النيابية، يجري بعدها عرض التشكيلة الوزارية على رئيس الجمهورية، ليجري بعدها اصدار مراسيم تشكيل الحكومة. فلماذا المماطلة والتسويف في الوصول إلى هذه النهاية، ولماذا يتحوّل الرئيس المكلف الى مجرّد «ساعي بريد» يستمع الى رؤساء الكتل، ورؤساء الطوائف، حتى النواب المستقلين واحداً واحداً ليتلقى وجهات نظرهم ورغباتهم في أن تكون لهم وزارات سيادية أو حقائب أساسية، ويقوم بنقل هذه الطموحات الى رئيس الجمهورية، ليتلقى اللوائح التي وصل إليها الرئيس المكلف، فيطويها ويضعها في جيبه أو في جارور امتلأ بالأسماء المقترحة.. ثم يؤجل حسم التشكيلة الى ما بعد عودة «الصهر المميّز» جبران باسيل من جولته الأمريكية الجنوبية ونادر الحريري ربما من جولته الأوروبية.. ليصار بعدها الى مناقشة التشكيلة.
لقد أوشك النواب ورؤساء الكتل النيابية أن ينسوا أن لبنان يحكمه دستور، وان مهمة تشكيل الحكومة منوطة بالرئيس المكلف، وأن رئيس الجمهورية أصدر مرسوماً بتكليفه، وان مشاورات التشكيل منوطة به، وكل ما هو مطلوب منه أن يعرض التشكيلة التي يصل إليها على رئيس الجمهورية، ليبدي ملاحظاته أو يصدر مراسيم تشكيل الحكومة، ويأخذ معها -ومع رئيس المجلس النيابي- الصورة التذكارية.
بعض أصحاب المصلحة في التسويف والمماطلة بتشكيل الحكومة يحسب أن الدستور اللبناني ما زال دستور عهد الانتداب، سواء دستور عام 1927 أو 1943، بينما شكل اتفاق الطائف نقلة نوعية واسعة وصلت بالمجلس النيابي الى ابرام اتفاق الطائف ليصبح دستوراً عام 1990، وبموجب هذا الدستور لم يعد رئيس مجلس الوزراء مجرّد «باش كاتب» كما كان يسمّيه الرئيس سامي الصلح، ولم يعد فيه النص الذي يقول: «رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيساً..» ليصبح رئيساً لمجلس الوزراء، وانما أصبح رئيس مجلس الوزراء رئيساً للهيئة التنفيذية التي تناقش كل شؤون البلد، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتتخذ بشأنها القرارات المناسبة، ثم تحيلها على رئيس الجمهورية ليوقعها ويصدرها بمراسيم ثم يحيلها على مجلس النواب خلال مدة شهر، وخمسة أيام في حال الاستعجال.
ما الذي جرى خلال الشهر الماضي؟ لقد أعربت معظم الكتل النيابية عن رغبتها -بل اصرارها- على المشاركة في الحكومة، ما يعني أنها تريد ما يسمى حكومة وحدة وطنية.. وهنا جرى تسديد الحسابات والاختلاف في تمديد نصيب كل كتلة نيابية، أن تتمثل بوزير أو اثنين أو أكثر، وأية حقائب تريد هذه الكتلة أو تلك الحصول عليها، كذلك أي حقيبة لا تسمح للحزب الفلاني أو الكتلة الفلانية بالحصول عليها.. وأن هناك حقائب سيادية، وأخرى خدماتية، وثالثة هامة.. كذلك حق الطائفة الفلانية بوزارة سيادية، والطائفة الأخرى بالخدماتية.. وهكذا دواليك!!
نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، ولم يعد يليق بمؤسساتنا الدستورية، سواء كانت مجلساً نيابياً أو مجلس وزراء أو أية مؤسسة أخرى، أن تكون محكومة بالتوافق العشائري، الذي يحتم تشكيلها من هذه المجموعات النيابية أو تلك. فقد شهدت الولايات المتحدة اجراء انتخابات رئاسية شغلت العالم بوقائعها وحواراتها قرابة عام كامل. وبعد انتخاب الرئيس انصرف لتشكيل حكومته وفريق عمله، سواء في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الأمنية، على الرغم من احتجاج قطاع كبير من الرأي العام الأميركي (والعالمي) على اختياره، وخروج مظاهرات في عدد من الولايات الأمريكية تؤكد هذا الرفض، لكن دونالد ترامب بات اليوم رئيس الجمهورية ورئيس كل الأمريكيين.. وهذا ما جرى في بريطانيا وما سوف يجري قريباً في فرنسا.
لماذا لم يعد في لبنان من يستبشر خيراً بتواري تياري 8 و14 آذار عن الواجهة السياسية، ويرحب بشعارات الوحدة الوطنية التي يطلقها الجميع.. لكننا نعيش في بلد تتناقض فيه الأهواء والمصالح الشخصية والحزبية والطائفية والمناطقية والعشائرية، اضافة إلى ارتباطاته الإقليمية والخارجية، ولا بدّ لكل فريق أن يدافع عن هذه المصالح تحت أي مسمى يختاره أو يتوافق عليه مع الزعامات أو الكتل أو الأحزاب الأخرى، وبالتالي فإن الرئيس المكلف يبدو أمام خيارين، أن يحاول تشكيل حكومة وحدة وطنية إن استطاع، أو حكومة أكثرية نيابية، سبق لها أن رشحته لتشكيل الحكومة، أو انها يمكن أن تمنح حكومته الثقة في المجلس النيابي.. والله الموفق.