اعتادت مصر أن يحكمها العسكريون، منذ أيام الفراعنة الى أيام المماليك وأسرة محمد علي ثم ضباط الثورة المصرية، وآخرهم المشير عبد الفتاح السيسي. وحاول الشعب المصري أن يتنفس الصعداء عندما وصل المدني الوحيد الى الحكم بعد ثورة يناير عام 2012، لكن العسكر ما لبثوا أن استنفروا قواهم وقفزوا الى السلطة بعد قمع الجماهير في الشوارع والساحات، لا سيما ميدان رابعة العدوية بالقاهرة، والنهضة بالجيزة، وفي المحافظات المصرية الأخرى، حيث سقط آلاف الضحايا في الميادين والشوارع، وأودع عشرات الآلاف السجون والمعتقلات. لكن أملهم بالعودة الى الحكم المدني الديمقراطي كان معلقاً على شهر آذار من هذا العام (2018) لإجراء انتخابات رئاسية حرة، على الرغم من العقبات التي جرى زرعها أمام أي رئيس مدني، أو أي رئيس ينتخبه الشعب بحرية، فقد اشترط الدستور المصري أن ينال أي مرشح خمسة وعشرين ألف توكيل، من خمس عشرة محافظة مصرية، حتى يمكن لهذا المرشح أن يتقدم بترشيحه وأن يخوض المعركة الانتخابية.
وبما أن عملية جمع التواقيع لا يمكن أن يمارسها سوى اثنين، الأول أن يكون من ضباط القوات المسلحة، لأنه يستطيع أن يأمر جنوده مع ذويهم بتوقيع آلاف التوكيلات، ومن هذا العدد من المحافظات، أو أن يكون مرشحاً من حزب سياسي واسع الانتشار في كل أنحاء مصر. وبما أن المؤسسة العسكرية استطاعت سحق الأحزاب المصرية، ومنعها من اقامة أي مؤتمر أو اجتماع عام في أي قاعة أو ساحة أو فندق، فإن أي حزب مصري -بعد حظر جماعة الإخوان المسلمين- يبدو عاجزاً عن اقامة مؤتمر عام أو حيازه ترشيحات وتوكيلات يدعم بها أحد مرشحيه. لذلك عاد الشعب المصري مكرهاً إلى دعم ترشيح الرئيس السيسي. وعندما حاول الفريق أحمد شفيق خرق هذا الخيار، وأعلن من امارة أبو ظبي، حيث كان لاجئاً في ضيافة أمرائها أبناء الشيخ زايد آل نهيان، جرى احتجازه فيها، ثم ترحيله بطائرة خاصة الى القاهرة، حيث جرى ايداعه أحد الفنادق، أو السجون، الى أن رضخ لأوامر الرئيس السيسي بسحب ترشيحه، والتزام عدم الإدلاء بأي تصريح أو بيان أو التقدم بأي ترشيح.. وهكذا أخليت الساحة للمرشح الأوحد عبد الفتاح السيسي.
وفجأة يبرز اسم مرشح عسكري آخر، هو الفريق سامي عنان، عضو المجلس العسكري الذي تسلم السلطة بعد ثورة يناير، وأشرف على الانتخابات التشريعية التي جرت في مصر خلال ما بعد الثورة، فقامت الدنيا ولمّا تقعد، إذ كيف يعلن الفريق عنان ترشيحه دون اذن المؤسسة العسكرية، وكيف له أن يفعل ذلك دون الحصول على توكيلات المحافظات المصرية الخمس عشرة والـ25 ألف مواطن!! مع أن الرجل أحيل على التقاعد من سنوات، وإن بدا في بعض المناسبات مرتدياً الزي العسكري، فالرئيس السيسي يرتدي بزته العسكرية في بعض المناسبات، مع أن الفريق عنان أكبر منه سناً، رغم أنه ما زال يتمتع بحراسة أمنية، ويتقاضى راتباً تقاعدياً.. وهذا ما حمل بعض كبار ضباط القوات المسلحة على أن يذيعوا بيانات ومواقف يعتبرون فيها أن المرشح عنان قد خالف النظام، وأنه أعلن ترشيحه دون إذن، وهذا ما يستدعي تقديمه الى المحكمة العسكرية، فضلاً عن منعه من الترشح.
أما السؤال الذي كان المواطن المصري يقف أمامه، فهو عن امكانية فتح باب الحوار بين الرئيس السيسي والمرشحين المحتملين. فما جرى خلال الفترة الأخيرة يتلخص في منع أحمد شفيق من الإدلاء بأي تصريح، واختطاف الفريق عنان من سيارته بالأمس حين كان متوجهاً الى مكتبه. واطلاق العنان لعدد من كبار الضباط كي يندّدوا بتصرف الفريق عنان، مع أن ذلك محظور على رجال المؤسسة العسكرية، وكذلك شنّ حملات مسعورة على عدد من القوى والأحزاب المصرية التي أيدت ترشيح الفريق عنان، فأين هي الحرية والديمقراطية في الانتخابات الرئاسية المصرية؟!
بقي أمام الشعب المصري نموذج واحد ووحيد للحرية والديمقراطية في مصر، طوال التاريخ الطويل لمسيرة هذا الشعب، هو ما جرى بعد ثورة يناير، فقد جرى في 19 آذار 2011 أول استفتاء على تعديل الدستور، وقد شارك في التصويت يومها الى جانب التعديلات المقترحة أكثر من 44 مليون ناخب، يشكلون 77٪ من الناخبين المسجلين. بعدها جرت الانتخابات الرئاسية، وفاز فيها المرشح محمد مرسي بمنصب رئيس الجمهورية، بحصوله على 13 مليون ومائتي ألف صوت، أي ما نسبته 51.73٪ في حين حصل المرشح الآخر (أحمد شفيق) على 12 مليون و347 ألف صوت، أي ما نسبته 48.27٪، وبلغت نسبة المشاركة واحداً وخمسين بالمئة، وعدد المقترعين 26 مليون مقترع، وكانت هذه هي الجولة الثانية للانتخابات الرئآسية، إذ خاض الجولة الأولى ستة عشر مرشحاً، فاز فيها محمد مرسي بالدرجة الأولى وأحمد شفيق بالدرجة الثانية، مما استدعى التصويت على مرشحين فقط في الجولة الثانية.
هذا بالنسبة للانتخابات الرئاسية، أما عن تشكيل الحكومة فقد جاء رئيسها من خارج الإخوان المسلمين (الدكتور هشام قنديل)، أما الوزراء فقد كان نصيب الإخوان أربع حقائب فقط، كلها لم تكن مما يسمى «حقائب سيادية» كالخارجية والداخلية والدفاع والعدلية. وخلال فترة السنة التي تولى خلالها الإخوان السلطة، لم يعيّن الرئيس مرسي سفيراً واحداً من اخوانه. أما عن انتخابات مجلس الشعب، فقد حقق حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين) 235 مقعداً، منها 127 من المقاعد المخصصة للقوائم النسبية، و108 للمقاعد الفردية.
هذا نموذج التجربة الإسلامية في ممارسة السلطة.. والى جانبها النموذج القائم الآن في مصر.. وفي غيرها من أقطار العالم العربي، حيث تحوّلت الأنظمة القومية والاشتراكية الى «أسر حاكمة» مدى الحياة، ليس في الأنظمة الملكية، وانما في الاشتراكية واليسارية والليبرالية كذلك.