يعاني لبنان منذ الاستقلال أزمات سياسية وطائفية متلاحقة، من الانقسام الطائفي والحرب الأهلية عام 1958، الى الصدام بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية عام 1969 بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد ما سمي «أيلول الأسود»، الى الحرب الأهلية عام 1975 التي استمرت سنتين، الى الغزو الاسرائيلي عام 1982 الذي اجتاح نصف الأراضي اللبنانية، الى الاعتداءات الإسرائيلية وتحرير معظم الأراضي المحتلة في الجنوب اللبناني.. بعد هذه المحطات لم تتوقف الأزمات اللبنانية، لكنها لم تعد صدامات عسكرية، بل تحولت الى صراعات سياسية وصلت حدّ تجميد الحياة السياسية بعدم اجراء انتخابات نيابية منذ عام 2009، وتمديد للمجلس القديم، انتهاء بشغور القصر الرئاسي وتوقف المجلس النيابي (الممددة ولايته) عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لكن الصراع السياسي آذن منذ ستة أشهر بالتوقف. فقد جرى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كان مفروضاً من عدد من القوى السياسية، ومرفوضاً من قوى سياسية أخرى، وجرى تشكيل حكومة العهد الأولى، التي كان من المفترض أن تكون «حكومة انتخابات»، فقد حرصت معظم القوى السياسية على صياغة قانون جديد للانتخابات، ورفضها اجراء الانتخابات بموجب ما سمي «قانون الستين»، الى أن توافقت هذه القوى على قانون جديد للانتخابات يعتمد النسبية، ويقسم لبنان الى خمس عشرة دائرة انتخابية. لكن أين نحن من الانتخابات، ومتى سوف تحط رحالها؟! هذا ما يشك اللبنانيون بوقوعه في موعده المحدّد، أي شهر أيار 2018.
أما في الجوار السوري، فقد انطلقت ثورة شعبية عام 2011، وتحولت الى حرب أهلية بعد الانقسام الذي أصاب الجيش السوري والشارع السوري. وتحوّلت المواجهات بين فصائل سورية حملت السلاح دفاعاً عن حقها في ان يكون لها نظام ديمقراطي منتخب، ودخول حزب الله وإيران في هذه الحرب، وصولاً إلى ان تتحول سوريا الى ساحة صراع بين القوى المتطرفة، والتكفيرية أحياناً.. ثم دخول القوى الإقليمية في هذه الحرب (تركيا وإيران)، وقوى دولية (روسيا والولايات المتحدة الأميركية).
كانت الحرب الدائرة في سوريا أكبر من قدرة النظام السوري أو المعارضة السورية على احتوائها، واستطاع النظام الحاكم في دمشق بالتنسيق مع النظام الحاكم في بغداد، استيلاد مجموعات متطرفة كـ«تنظيم الدولة» و«النصرة» وعدد من الفصائل المقاتلة، وان يجري رفدها بآلاف من غلاة المتطرفين، استطاعوا أن يبسطوا سيطرتهم على مناطق واسعة من الأراضي السورية والعراقية، وان يضعهم تحت مجهر الإعلام العالمي، بحيث يقتنع المراقبون بأن المواجهة في الساحة السورية ينبغي أن تكون لاستئصال هذه القوى المتطرفة، التي وضعت يدها على أنابيب النفط والغاز، لكي تصبح لديها موارد مالية تستطيع بها اقامة ما يشبه «الدولة» في عدد من المناطق السورية والعراقية، وأبرزها الموصل والرقة. وهكذا لم تعد عملية اسقاط النظام السوري أولوية، بل القضاء على المنظمات الإرهابية، لأن خطرها امتد الى أقطار أوروبية، تعيش فيها جاليات عربية ومسلمة، شكلت أرضاً خصبة للفكر المتطرف.
ماذا عن الساحة اللبنانية؟ كان من البديهي أن يتأثر الشباب المسلم اللبناني بتداعيات الحرب الدائرة في سوريا، خاصة بعد أن استعمل النظام السوري، مدعوماً من روسيا وإيران، سلاح الطيران ومدفعية الدبابات والبراميل المتفجرة لضرب فصائل المعارضة السورية وتدمير المدن والقرى والأحياء السكنية، مما حمل الملايين من أبناء الشعب السوري إلى مغادرة مدنهم وقراهم، وان يصبحوا مشرّدين في كل أنحاء الأرض.
معروف أن لبنان تربطه حدود مشتركة مع سوريا، لذلك فقد لجأ قرابة المليون ونصف المليون نازح سوري الى الأراضي اللبنانية، ومعظم هؤلاء يعيشون في مخيمات عشوائية، لا تتوفر فيها الخدمات الانسانية أو الرقابة الأمنية. ويتحدث المراقبون عن حاجات هؤلاء النازحين، خاصة في برد الشتاء وحرّ الصيف، فضلاً عن أن يصبحوا لقمة سائغة للفصائل المسلحة، معتدلة أو متطرفة، حتى باتت تهمة الإرهاب والتطرف جاهزة لاطلاقها على كل نازح أو لاجئ، يغادر سكنه وأهله فيلجأ الى لبنان أو تركيا أو غيرها، ليجد بعض الدعم أو الإيواء من الهيئات الانسانية أو الجمعيات الإغاثية. هذا في الساحة المناوئة للنظام، أما في المقلب الآخر فنجد مجموعات مسلحة وميليشيات طائفية تعبر الحدود الى الداخل السوري، دون حسيب أو رقيب. تذرعت هذه المجموعات الطائفية أولاً بالدفاع عن مقام السيدة زينب، ثم عندما أوغلت في قتال الشعب السوري في محافظات حلب والباب وغيرها، وحملوا جثامين قتلاهم الى القرى التي خرجوا منها في لبنان.. تكشفت معالم المواجهة، وأنها كانت وما تزال دفاعاً عن النظام الجائر، متذرعين بالدفاع عن المقاومة والممانعة، وهي التي لم يعد لها محل في مواجهات السنوات الست السالفة.
لقد اعتمد لبنان سياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في التعاطي مع الملف السوري، رغم أن شركاءه في الحكومة كانوا يرسلون أرتال المقاتلين دفاعاً عن النظام، الذي -حسب توصيفهم- كان آيلاً الى السقوط لولا دفاعهم عنه. وهذا الموقف انسحب لتعتمده حكومة الرئيس الحريري. لكن الممارسة على الأرض تخالف ذلك، لا سيما بعد الموقف الذي ورد في خطاب أمين عام حزب الله، من «فتح الحدود اللبنانية أمام مئات الآلاف من المقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي في أي معركة تشنها إسرائيل ضد لبنان»، وماذا عن الخبر الذي تداولته وسائل الإعلام عن مقتل أربعة «انتحاريين» كانوا في عهدة الجيش اللبناني، بعد أحداث عرسال التي سقط فيها قتلى وجرحى.. وأنه لدى الكشف الطبي المعتاد تبيّن أن عدداً من الموقوفين يعاني مشاكل صحية، وانها تفاعلت نتيجة الأحوال المناخية.
هنا لا بدّ من أن تستشعر الأجهزة الأمنية والعسكرية مسؤوليتها عن الموقوفين لديها، لأن تهمة الانتحاري أو الإرهابي باتت جاهزة لتطال أي معتقل على الحدود السورية أو في عرسال، خاصة أن وزير الداخلية تحدث عن الظروف المأساوية التي يعاني منها المعتقلون، وأن هناك الآن ما يقارب ألفي معتقل سوري ينتظرون المحاكمة...}