قضية القدس تصدّرت اهتمامات العرب والمسلمين خلال الأيام القليلة الماضية، فقد احتل العدوّ الإسرائيلي القدس منذ عام 1967، بعد أن كانت مع الضفة الغربية تحت الوصاية الأردنية، وقد سبق للكونغرس الأميركي أن اتخذ قراراً بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى مدينة القدس عام 1995، لكن لم يجرؤ رئيس أميركي على تنفيذ هذا القرار ونقل السفارة الى القدس الغربية قبل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، فهل هي مجرد صدفة، أم شجاعة زائدة لدى الرئيس ترامب.. أم أن هناك عوامل أخرى -لا سيما لدى الجانب العربي- دفعت ترامب الى هذا الإجراء؟
العامل الأول الذي دفع ترامب الى هذا التصرف هو أنه أعلن عن هذا الالتزام خلال حملته الانتخابية الرئاسية، خاصة أن عدداً من كبار مستشاريه ومعاونيه كانوا من اليهود الأمريكيين، كما أن كبار مموّلي حملته الانتخابية كانوا من أصحاب المؤسسات اليهودية الأمريكية، وعلى هذا فلم يكن مفاجئاً أن يقدم الرئيس الأميركي على هذا الإجراء. أما الجانب الأهم فهو الضعف الشديد والانقسام الذي يعاني منه العالم العربي، بدءاً من الساحة الفلسطينية، وصولاً الى الخلل الذي أصاب علاقات الأقطار العربية بعضها مع بعض، انطلاقاً من منطقة الخليج العربي، وما سمي «حصار قطر» الذي لم يكن له أي مبرر، سوى نزوات بعض الساعين الى مواقع السلطة في هذا القطر الخليجي أو ذاك.
انطلاقاً من هذا، فقد بادر ترامب الى اتخاذ قراره القاضي بنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية من «تل أبيب» الى مدينة القدس، وهذا قرار غير مبرّر، أقدم عليه من لا يملك لمن لا يستحق. فالقدس مدينة عربية جرى احتلالها -مع الضفة الغربية وغزة- عام 1967، وصدرت قرارات دولية عن الأمم المتحدة بضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المحتلة، بصرف النظر عن أن المستعمر البريطاني كان هو الذي مهّد الطريق ليهود العالم كي يتدفقوا على فلسطين، ومعظمهم مواطنون في أقطار أخرى، يحملون جوازات سفرها ويتمتعون بحقوقهم الكاملة فيها. أما أهل فلسطين وأبناؤها، في كل المدن والأرياف الفلسطينية، فقد جرى طردهم من بلادهم وتشريدهم في أنحاء الأرض، وبالتالي فلا مكان في مدينة القدس أو سواها لنقل أي سفارة إليها، سواء كانت أمريكية أو آسيوية.
ورغم كل ما سبق، من ملاءمة الأجواء السياسية العامة للقرار الأمريكي، فقد واجه الإجراء الأمريكي رفضاً عالمياً، بدءاً من العالمين العربي والإسلامي، مروراً بمعظم الأقطار الأوروبية، التي كانت باستمرار تدعم التوجهات الأمريكية وتناصر الموقف الإسرائيلي في الأوساط الدولية.. وصولاً إلى القمة التي عقدتها منظمة التعاون الإسلامي في استامبول، حيث شهدت توافقاً كبيراً بين أقطارها. وتميّز الخطاب الذي ألقاه الرئيس طيب رجب أردوغان بتوافق واضح مع الخطاب المطوّل الذي ألقاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومعه كل الملوك والرؤساء العرب، على الرغم من تباين الآراء حول كل القضايا المطروحة، ولم تجمعهم سوى القدس والقضية الفلسطينية.
والجدير بالذكر أن هذا اللقاء الموسع الذي انعقد بالأمس في استامبول، وكان يحمل عنوان «منظمة المؤتمر الإسلامي»، وبات منذ سنوات يحمل اسم «منظمة التعاون الإسلامي»، وسبق لهذا المؤتمر أن انعقد في المغرب عام 1959 بعد الحريق الذي أصاب المسجد الأقصى، وهو مؤلف من سبع وخمسين دولة، يجري تداول الرئاسة فيه بشكل دوري، وتنعقد جلساته مرة واحدة في السنة.
اذن، مدينة القدس هي التي جمعت العرب والمسلمين، والأقصى هو الذي أطلق شرارة المؤتمر الإسلامي ثم منظمة التعاون الإسلامي. وما جرى ويجري في كافة أنحاء فلسطين المحتلة، من الضفة الغربية الى غزة إلى المناطق المحتلة عام 1948، من احتجاجات واعتصامات ومظاهرات بشكل يومي، في كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي. والملاحظ في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، هو مشاركة الرئيس الفنزولي نيكولاس مادورو كضيف في المؤتمر، على الرغم من أن فنزويلا ليست عربية ولا مسلمة، وما يجمعها بمنظمة التعاون الإسلامي هو أن قضية فلسطين والقدس هي قضية محقة، وأن الكيان الصهيوني غاصب ومحتل. بالمقابل، لاحظ المراقبون غياب عدد من أعضاء المؤتمر دون مبرر، اللهم إلا موقف شخصي أو سياسي عابر لهذا الرئيس أو الملك أو ذاك.
يبقى السؤال المطروح: الى أين تتجه قضية القدس، والقرار الأمريكي بنقل السفارة من تل أبيب الى القدس؟!
لن يغيّر القرار الأمريكي من وقائع القضية شيئاً. فهو قرار باهت لا وزن له ولا قيمة. وسواء كانت السفارة الأمريكية في تل أبيب أو القدس أو رام الله فلن يمنح ذلك شرعية للكيان الصهيوني، وهو يجرّد الإدارة الأمريكية من شرعيتها ومن شرعية رئيسها، الذي يواجه قضايا بعضها سياسي وبعضها إداري وبعضها أخلاقي أمام القضاء. والأهم من كل ذلك هو الموقف العربي والإسلامي والفلسطيني من قضية القدس والحق العربي في فلسطين. فقد انطلقت انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى في بداية شهر كانون الأول عام 1987، فكانت انتفاضة حجارة، تحولت بعد فترة الى انتفاضة سكاكين، وثورة شعبية ومسلحة ضد العدوّ الإسرائيلي. وقد تواكب ذلك مع اطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي ارتقت بالقضية من قضية وطنية للشعب الفلسطيني، الى أن تكون قضية الأمة، وبعدها أن تكون مقاومة إسلامية تحرر قطاع غزة وتحتفظ به حراً حتى يومنا هذا.
والملاحظ في مؤتمر التعاون الإسلامي تطابق المواقف بين ما أطلقه رئيس المؤتمر طيب رجب أردوغان، وما ركز عليه خطاب الرئيس محمود عباس، الذي حمل وجهات نظر الساحة الفلسطينية بفصائلها الوطنية والإسلامية.. مما يساهم في دعم المصالحة الفلسطينية، كي يكون الجميع في مواجهة الكيان الصهيوني والقوى المؤيدة له، وفي طليعتها الإدارة الأمريكية.