المعارك التي دارت -وربما لا زالت تدور- في جرود بلدة عرسال في السلسلة الشرقية لجبال لبنان.. بدأت منذ سنوات، ولم تنطلق شرارتها منذ أسبوعين فقط، وحزب الله لم تبدأ مشاركته في التصدي للثورة السورية منذ أسابيع ضدّ «الإرهابيين والتكفيريين والمتطرفين»، وانما بدأت منذ انطلاق الثورة السورية ضد النظام منذ أكثر من ست سنوات. ونتائج المواجهات في جرود عرسال لن تتوقف عند انسحاب هذا الفصيل السوري أو ذاك، وانما الى بدايات المشاركة تحت عنوان الدفاع عن «مقامات أهل البيت» ثم الى معارك حلب وادلب وغيرها من الساحات السورية. ونتائج المواجهات الدائرة هذه الأيام لن تقتصر على الجانب اللبناني من الحدود، وانما سوف تنتشر في كل الساحة السورية، بل سوف تكون لها تداعياتها على مستوى المنطقة، لأن مشاركة فصيل إسلامي في التصدي لثورة شعب مظلوم نموذج غير مسبوق في الساحتين العربية والإسلامية، إذ على الرغم من انغماس مقاتلي حزب الله في الحرب السورية طيلة السنوات الست الماضية، الا أن المجموعات القتالية ما زالت تحمل اسم «المقاومة» حرصاً منها على أن تحوز شرف مقاومة العدوّ الإسرائيلي، على فلسطين أولاً، ثم على الجنوب اللبناني منذ عام 1982، وجميع المناطق الحدودية المتاخمة لفلسطين المحتلة.
يتحدث المراقبون عن هزيمة وشيكة لتنظيمي «النصرة» أو«داعش» في المناطق المحيطة بعرسال. قد يكون هذا الاحتمال وارداً بنسبة عالية، أولاً بسبب الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمنطقة الجرود، أو نتيجة الدعم الجوي الذي تتلقاه قوات «المقاومة» من طيران النظام، في حين تفتقد مجموعات «داعش» أو «النصرة» لأي مساندة جوية أو صاروخية، يضاف الى ذلك ان هذه المجموعات تعاني ما يشبه الحصار، فالجيش اللبناني يرابط على الحدود اللبنانية، وهو جاهز لمواجهتها، وقوات حزب الله تحاصرها وخلفها المناطق السورية التي ترابط فيها قوات النظام، فضلاً عن المواجهة القائمة بينها وبين «تنظيم الدولة» الذي يعتبرها عدواً له كما هي قوات النظام والميليشيات الطائفية الأخرى.
المعركة القائمة سوف تنتهي غالباً لمصلحة «النظام» وقوات «المقاومة»، فماذا عن بقية المناطق السورية، التي تتقاسمها تركيا والأردن من الشمال والجنوب (ادلب وريف حلب من جهة، ودرعا حتى الحدود الأردنية من جهة أخرى)، وماذا عن «سوريا المفيدة» التي سوف تكون من نصيب النظام، لتبقى من نصيب نظام بشار الأسد لفترة زمنية تقصر أو تطول؟! أين ستكون سوريا التي نعرفها، خاصة إذا بقيت مدينة الرقة بيد «داعش»، والقامشلي ودير الزور على حدود كردستان العراق، لتنعش الأمل الكردي القديم بدولة تضم أكراد سوريا الى كردستان العراق، بانتظار أكراد تركيا وإيران بهذا الكيان الذي سقط منذ مائة عام من اتفاقية سايكس - بيكو.
يبرّر حزب الله مشاركته الواسعة بالحرب الدائرة في سوريا أنها حرب ضد «الإرهابيين والتكفيريين والمتطرفين»، وأنه سوف يقاوم الإرهاب في أي مكان أو زمان.. أين كان هذا التوجه منذ سنوات عام 2007، حين أرسلت المخابرات السورية تنظيم «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي ليحاول زرع تنظيمه المتطرف في مخيمات بيروت، ثم جرى ترحيله برعاية معروفة الى مخيم النهر البارد، وعندما بدأت مواجهة هذه الحالة بقرار من الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني، جاء موقف حزب الله على لسان أمينه العام «ان حرب المخيمات خط أحمر» الى أن سقط عشرات القتلى من جنود الجيش، وأبناء المخيم، وتدمير المخيم ومحيطه المعروف الهوية والانتماء.. ليجري ترحيل «العبسي» من جديد الى سوريا، بعد فشل مشروع «فتح الإسلام» في لبنان.
المواجهات العسكرية الدائرة في جرود عرسال لن تنهي الحرب الدائرة في سوريا، ذلك أن تلك الحرب أوسع أفقاً من ميليشيات حزب الله وقواته العسكرية، خاصة أن «حزب الله» لم يكن ولن يكون وحده في المواجهات التي تدور على الأراضي السورية، خاصة أن الفصائل المشاركة في هذه المواجهات تحمل طابعاً طائفياً واضحاً، وأن بعضها يركز على الأداء العسكري وبعضها الآخر يعمل في الميدان الدعوي المذهبي، وقد سبق لرئيس الوزراء السوري المنشق (رياض حجاب) أن تحدث عن تبدل واضح في الهوية الطائفية والمذهبية لعدد من المناطق السورية التي لم يكن فيها أي حضور مذهبي، وتحدث عن بناء عشرات الحسينيات في مناطق سورية معروفة.. يضاف الى ذلك حضور إيراني وعراقي بارز في بعض أحياء العاصمة دمشق، التي غادرها سكانها الأصليون أو باعوا منازلهم بأسعار زهيدة، ليحتلها المشاركون في الحرب السورية أو ذووهم من الوافدين الى سوريا.
حرب جرود عرسال ليست سوى شريحة صغيرة أراد منها من يديرون الحرب في الساحة السورية اثبات تفوّقهم في هذه الحرب، لا سيما في الساحة اللبنانية، خاصة أن لبنان مقبل على انتخابات ذات طابع جديد (نسبيّة بصوت تفضيلي)، وحزب الله لا يريد تكرار الثنائية الشيعية التي مارسها على الساحة اللبنانية، فقد شاخت حركة أمل، وأكبر النواب سناً في المجلس النيابي هم من أبنائها، وإذا بدأت عملية توزيع المرشحين على المقاعد والمواقع النيابية، فلا بدّ من أن تكون هناك توزيعات جديدة للمقاعد النيابية بما يتلاءم مع الوزن السياسي لحزب الله، كما هو الوزن الشرعي والمالي.
وبالتالي فإن التركيز على السلسلة الشرقية لجبال لبنان سوف يكون له ما بعده، انطلاقاً من سهل البقاع الممتد من أقصى الشمال في الهرمل وبعلبك، الى أقصى الجنوب في حاصبيا وراشيا. وإذا ما انتهت معارك جرود عرسال، كما جرود بعلبك الهرمل، فإن نتائجها سوف تنعكس على الداخل اللبناني، كما على الداخل السوري، إذا ما انتهت الحرب كما يريدها حزب الله وحلفاؤه في كل من الساحتين اللبنانية والسورية.