العدد 1421 / 15-7-2020
د. وائل نجم


خلال الأيام والأسابيع الأخيرة, نُشرت العديد من التقارير الصحفية في بعض المواقع الإلكترونية والصحف الورقية ركّزت معظمها على ما يمكن تسميته محاولة "شيطنة" الشمال وطرابلس على وجه التحديد، وتزامنت مع تصريحات لمسؤولين ألْمحوا وأشاروا أيضاً إلى توفّر معلومات لديهم تصبّ في الاتجاه ذاته، دون أن يتمّ الكشف عن أيّ من هذه المعلومات، غير أنّها ظهرت وكأنّها جزءٌ من سياق كامل يعمل على الترويج لفكرة "شيطنة" الشمال. والأنكى من ذلك أنّ الذين تولّوا هذا الكِبر هم من البيئة والمكوّن الذي يدّعي دوماً حرصه على وظيفة ودور البيئة التي يتشكّل منها الشمال إجمالاً وطرابلس تحديداً.

تكثّـفت الحملة خلال الأيام الماضية، واستخدمت فيها مصطلحات من العيار الثقيل، وجرى الإساءة لمدينة طرابلس فضلاً عن التشكيك بها وبأهلها، وكأنهم خائنون – لا قدّر الله – أو خارجون من عباءة الوطنية، فتمّ الحديث عن "احتلال" تركي للمدينة عبر المشاريع التنموية أو المساعدات أو المنح التعليمية، ونسي أولئك أو تناسوا أنّ المدينة والشمال معها ومن خلفها قدّموا للوطن ما لم يقدّمه أحدٌ دون منّة أو انتظار جميل. نسي أولئك أو تناسوا أنّ بعضهم وهو في سدّة المسؤولية كان ينبغي أن يلتفت إلى طرابلس بالمشاريع الإنمائية والتعليم والخدمات العامة، لا أن يحوّل طرابلس إلى ساحة لتصفية الحسابات أو المناكفات.

لقد تحمّلت طرابلس ومعها وإلى جانبها الشمال الكثير الكثير من أجل الوطن، وضحّت بالكثير الكثير من أجله، وارتضت أن تكون أفقر مدينة في لبنان تحت عباءة وكنف الدولة. لقد عملت طرابلس كي تكون صمام أمان الوطن، وكي تسترجع منطق الدولة والمؤسسات من خلال انتفاضتها مع شقيقاتها من المدن اللبنانية في السابع عشر من تشرين الأول. نادت طرابلس بالقانون والدولة والمؤسسات والمحاسبة والشفافية والتكافؤ والمواطنة، نادت بكل شيء يقرّب اللبناني من أخيه اللبناني. امتدّ ذراعها ليلتقي مع بقية المدن والبلدات والدساكر في بقية مناطق الوطن في مشروع التخلّص من كل هذا العفن الذي أوصل البلد إلى ما وصلت إليه من أزمات اقتصادية واجتماعية وبيئية وغيرها. لقد استقبلت طرابلس وفتحت ذراعيها لكل أبناء الوطن، وعلى اختلاف توجهاتهم ولم تسأل يوماً واحداً منهم لا عن هويته ولا عن انتمائه ولا عن خلفيته، يكفي أنّه لبناني يؤمن بهذا البلد وبالعيش فيه بسلام واستقرار وعدالة.

اليوم يريدون "شيطنة" هذه المدينة الرائعة، ومعها الشمال الذي يشكّل عمقاً حقيقياً للوطن. يريدون أن ينالوا منها ومن أهلها عبر فبركات باتت معلومة الهدف والغاية. معروفة النوايا والأدوار. بعضهم يريد أن "يشيطن" هذه المدينة ليقدّم أوراق اعتماد عند أسياده من ذوي المال والنعمة على قاعدة محاربة ومكافحة التطرّف، ومن قال إن طرابلس متطرّفة؟ أو إن أهلها كذلك؟ من قال ذلك سوى أولئك الذين يفبركون التقارير والأخبار من أجل غايات خاصة بهم؟! وبضعهم الآخر يوافق أو يشارك في عملية "الشيطنة" ظنّاً منه أنّها بضاعة رائجة يمكن أن تحجز له موقع صداقة أو حوار يخرجه من أزماته مع دول تبحث أيضاً مخرجاً لأزماتها في ظل تنامي الأزمات وتطوّر الأمور والأوضاع.

بات معروفاً أنّ كلّ هذه الدسائس والفبركات لا تمّت إلى الحقيقة والواقع بصلة. إنّها محاولات لحرف أنظار الناس عن الأزمات المتفاقمة، عن الفساد المستشري، عن المحاصصة التي أوصلت الدولة إلى هذا الدرك، عن الفشل في إدارة كل شيء، وفي مواجهة التحدّيات والأعاصير. إنّها محاولة لتضليل الرأي العام المحلي والعربي والدولي من أجل الهروب إلى الأمام حتى ولو كان ذلك على حساب إحراق البلد وإغراقه بالفوضى.

للذين يروّجون هذه الفبركات والدسائس، يجب بعد اليوم أن تقدّموا ما لديكم من معلومات موثّقة أمام الأجهزة القضائية والأمنية وأمام الرأي العام بشكل واضح حتى لا تبقى الأمور مجهولة ومبهمة إذا كان فعلاً هناك ثمّة معلومات حقيقية لديكم.

ولأهل طرابلس والشمال، لا تلتفتوا بعد اليوم إلى هذه الدسائس والفبركات، ولا إلى هذه المؤمرات. بعد اليوم ليكن هناك فريق حقوقي متطوّع يعمل على ملاحقة كل من يروّج هذه الدسائس، ويحاكم كل من يحاول أن "يشيطن" هذه المدينة خدمة لأجندات أو أزمات يعانيها ولو على حساب أمن واستقرار البلد. كما ينبغي التمسّك أكثر من ذي قبل بمشروع دولة المواطنة والمؤسسات فما هذه الفبركات إلاّ حشرجات النزع الأخير لأولئك الذين لا يرقبون في الوطن ومدنه وأهله إلاًّ ولا ذمّة.