كان اللبنانيون ينعمون بالراحة والهدوء والاستقرار الأمني والسياسي طيلة العام الماضي. فقد انتخب مجلسهم النيابي رئيساً للجمهورية بما يشبه الاجماع الوطني، وشكلوا حكومة وحدة وطنية، وبدأوا يعدّون العدة لإجراء الانتخابات النيابية في أيار من العام القادم.
مساء يوم السبت 4 تشرين الثاني، يفاجأ الجميع بخطاب متلفز من الرياض للرئيس سعد الحريري، يعلن فيه استقالته من رئاسة الحكومة، ويوجه أصابع الاتهام لإيران وحزب الله بتخريب الوضع السياسي في البلد، والتسبب بهزّ الأمن القومي العربي من خلال الاعتداء على عدد من الدول العربية، اليمن والعراق والبحرين وأخيراً لبنان. ثم غاب الرئيس عن السمع حتى اليوم التالي، حيث ظهر في صورة على موقعه واقفاً الى جانب السفير السعودي القادم الى لبنان وليد اليعقوبي.
لم يكن لهذه الصدمة أية مقدّمات، فقد التقى الرئيس الحريري مستشار مرشد الثورة في إيران علي أكبر ولايتي، وانتهى اللقاء بتصريحات ايجابية، وتركيز من الحريري على الانجازات التي قدمتها حكومته، التي يشاركه فيها وزيران يمثلان حزب الله. اضافة الى أن مجرد الإعلان عن الاستقالة من خارج لبنان أمر غير مسبوق، لذلك ذهبت التيارات السياسية والوسائل الإعلامية في أكثر من اتجاه، لكنهم كلهم ركزوا على ضرورة انتظار عودة الرئيس الحريري ليقدم استقالته بنفسه، وعندها يقبلها منه رئيس الجمهورية أو يرفضها، ويبدأ مشاورات حول الاستقالة أو يتخذ قراراً بإجراء مشاورات لتكليف رئيس جديد يتولى تشكيل حكومة جديدة.
لكن الأخطر من كل ذلك كان الحديث عن الرئيس الحريري نفسه، فقد قال عند تلاوة خطاب استقالته بأنه تلقى معلومات أمنية تفيد بأنه كان مستهدفاً من جهة إرهابية، لكن الأجهزة الأمنية كلها أفادت بأن شيئاً من ذلك لم يقع، وأنها لا علم لها بذلك. وذهب البعض الى احتمال أن يكون الرئيس الحريري مختطفاً، خاصة أنه لم يظهر إلا خلال زيارته للملك سلمان في قصر اليمامة الملكي بالرياض. حتى بعد زيارته ولي عهد الإمارات في أبو ظبي، لماذا هذه الزيارة مع أن الأمير محمد بن زايد لا تربطه علاقة وطيدة مع الرئيس الحريري، لكنه يعتبر الشق المكمل لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ولماذا يعود الحريري الى الرياض ولا يكمل طريقه الى بيروت ليحسم الأمور المتعلقة باختفائه عن السمع، خاصة أنه لم يكن في منزله بالرياض بعد عودته، والأدق من كل ذلك أن الحريري خلال الأيام التي أعقبت غيابه عن بيروت كان يرتدي بذلة واحدة، من يوم خطاب الاستقالة الى زيارة الملك سلمان الى السفر للقاء ولي عهد أبو ظبي، كما أنه لم يبدّل ربطة العنق خلال الأيام التي أعقبت استقالته، وهذا ما لم يعهده الناس في الحريري، إلا إذا كان بعيداً عن منزله ومرافقيه.
يضاف الى كل ذلك أن الرئيس الحريري حتى لو كان مضطراً للبقاء في السعودية خشية تعرّضه لخطر أمني في لبنان، فقد كان بإمكانه توظيف الزيارة في أوساط الجالية اللبنانية في الرياض، فيلتقي بها ويتشاور معها ويطالبها بالتحضير للتصويت في الانتخابات القادمة، كما يفعل وزير الخارجية جبران باسيل أو الدكتور سمير جعجع حين يقومان بجولات في ديار الاغتراب، من أوستراليا الى أمريكا الجنوبية. لكن حتى وزير الإعلام ملحم رياشي لم يستطع لقاء الحريري مع أنه كان في مدينة الرياض، وكذلك أي موظف في السفارة اللبنانية بتكليف من حكومته.
هنا أخذت الأمور منحى آخر، فالرئيس سعد الحريري بالأصل رجل أعمال، وهو مواطن سعودي أمضى طفولته وشطراً من شبابه في الرياض، وتربطه علاقات وصداقات وشراكات مع عدد من أمراء الأسرة السعودية الحاكمة، ورجال الأعمال السعوديين، ومعروف لدى كثيرين المشاكل المالية التي تعاني منها شركة سعودي أوجيه وغيرها من المؤسسات والشركات التي يملكها آل الحريري. وليس بعيداً من ذلك عمليات استدراج عدد من الأمراء والوزراء وكبار رجال الأعمال ليعودوا الى السعودية، حيث جرى اعتقالهم قبيل صدور أمر ملكي بتشكيل «اللجنة العليا لمكافحة الفساد»، ليجري التحقيق مع عشرات الرموز السعوديين، وتفريغ فندق ريتز كارلتون بالرياض من نزلائه خلال ساعات، ليودع فيه المعتقلون.. أليس وارداً أن يكون الرئيس سعد الحريري مع هؤلاء الموقوفين، كشريك لهم أو كشاهد عليهم.. وأن يسمح له بزيارة الملك سلمان، ثم زيارة أبو ظبي، ليعود الى الفندق الفخم كمواطن سعودي، ليس أكبر شأناً من الأمراء والوزراء الموقوفين؟! كل ذلك بات وارداً ومحتملاً، خاصة أن ممارسات ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) توحي بأن هذا الأسلوب بات معمولاً به ورائجاً بشكل واسع في السعودية. فمنذ أسابيع جرى اعتقال عشرات العلماء وكبار المثقفين في المملكة لمجرد أنهم لم يتجاوبوا مع الحملة التي يشنها تحالف الدول الأربع على قطر، كما أن رئيس جمهورية اليمن، عبد ربه منصور هادي، المقيم في الرياض بتنسيق وتفاهم مع الحكومة السعودية، عندما حاول مغادرة مطار الرياض صودر جواز سفره وأبلغ مع أبنائه ووزرائه أن ذلك محظور عليهم.. وليس بعيداً عن ذلك تحطم طائرة مروحية كانت تقل أمير منطقة عسير منصور بن مقرن مع عدد من مرافقيه ومعاونيه.
نتمنى أن تتحوّل علامات الاستفهام والتعجب الى اجابات واضحة خلال الساعات القادمة، وقبل وصول «الأمان» الى قرائها.. سواء صحت رواية الخطر الأمني الذي تعرّض له الرئيس الحريري، أو أنه نزل في الفندق الفخم بالرياض ليجري التحقيق معه أو الاستماع إليه كشاهد ليس أكثر.. فالبلد لا يحتمل هزات سياسية أو أمنية، ويبدو من تصريحات جميع القوى السياسية اللبنانية أنها حريصة على هذا الاستقرار السياسي والأمني.. وفي طليعة هؤلاء حزب الله وتكتل 8 آذار في المجلس النيابي.. أو أن يلجأ الرئيس ميشال عون لإجراء مشاورات، تمهيداً لتكليف الرئيس الحريري من جديد، أو شخصيّة حيادية، بتشكيل حكومة محايدة (تكنوقراط أو وحدة وطنية) لتشرف على إجراء الانتخابات... وبعدها لكل حادث حديث.