بعد مبادرات النوايا الطيبة التي سارت بالبلد الى حلحلة أزماته المتلاحقة، من شغور موقع رئاسة الجمهورية الى التمديد للمجلس النيابي الى تعذر الوصول إلى توافق حول قانون الانتخابات.. كان المراقبون وما زالوا يراهنون على مزيد من التنازل، ومن طرف واحد للتفاهم على قانون للانتخابات، تجري بموجبه وتخرج البلد من أزمته. لكن يبدو أن الرهان على ذلك كان وما يزال موجة من الوهم، وأبرز دليل على ذلك مشروع «قانون الانتخاب» الوفاقي الذي أطلقه الوزير جبران باسيل، الذي لم يحمل أي حل أو تسوية، وانما مزيداً من التأزيم والتعقيد. وهذا ما يحمل على العودة الى السبب الحقيقي للأزمات المتلاحقة، وهو أن الأزمات اللبنانية لن تكون لها نهاية إلا إذا كتبت نهاية للأزمة المستحكمة في سوريا، التي فشلت مؤتمرات جنيف، والأستانة.. في حلها، رغم جلوس القوى الكبرى على طاولة الحوار، أميركا وروسيا أولاً، والقوى الإقليمية لاحقاً: تركيا وإيران.. لتتحرك الهيئات الإنسانية العالمية ومنظمة العفو الدولية، فتصدر بيانات بالغة الحدة عن الأوضاع الإنسانية في سوريا.
بعد انعقاد الجلسة الأولى لمؤتمر الأستانة، ومقاطعة ممثلي المعارضة السورية لجلسات الحوار، مما يعني أن المفاوضات لن تتقدم خطوة إلى الأمام.. كانت مجموعة من المنظمات المختصة بشؤون توثيق الانتهاكات والمساءلة والعدالة الانتقالية في سورية وجهت مذكرة إلى الأطراف السورية المتفاوضة، وإلى دي ميستورا وفريقه، والدول الراعية للعملية التفاوضية، تحدد سبل حل أزمة المعتقلين في سورية، طالبت فيها بضرورة السماح بدخول مراقبين مستقلين وفتح باب الزيارات بشكل فوري للمعتقلات، مشيرة إلى أن أياً من القوى المتفاوضة، أو الأمم المتحدة، أو المجموعة الدولية لدعم سورية لم تمارس أي ضغوط جدية بخصوص ملف المعتقلين.
بدورها نوّهت منظمة العفو الدولية في تقرير لها صدر أخيراً إلى «وجود عمليات إعدام منتظمة تقوم بها السلطات السورية، وتتم عن طريق عمليات شنق جماعية شملت خلال السنوات الخمس الماضية 13 ألف سجين داخل سجن صيدنايا قرب دمشق وحده». وأضافت أن «التعذيب مثل الصعق الكهربائي والإعدام الوهمي والتعريض للبرودة والحرارة لمدة ساعات أو أيام، والأوضاع المجهدة المؤلمة، والتعليق مع قلب الرأس إلى أسفل، وتقييد الضحية وظهره إلى الحائط، فضلاً عن انتزاع الأظافر، ونتف الشعر واللحية، واستخدام الأحماض لحرق الجلد، والعري لفترات طويلة والحرق بالسجائر والمواد المذيبة».
وقال البيان: البلاد عبارة عن عشرات السجون والمعتقلات التي بني الكثير منها خلال العقود الماضية. ومن أشهر السجون الرسمية سجن دمشق المركزي الكبير، الواقع في مدينة عدرا إلى الشمال الشرقي من دمشق. وهناك أيضاً سجن عدرا المركزي للنساء، غير البعيد عن سجن الرجال. وتخضع المعتقلات لظروف مشابهة لسجن الرجال من ناحية الإهانة والضرب والتعذيب وحتى الاغتصاب، في حين تنعدم الرعاية الطبية رغم وجود نساء مسنات ومريضات أو حوامل. كما أن هناك سجن حلب المركزي الواقع بجانب مخيم للاجئين الفلسطينيين، وسجن حماة المركزي الذي اشتهر بإضرابات المعتقلين فيه، وسجن السويداء المركزي وسجن حمص المركزي.
ولعل الأكثر شهرة هو سجن صيدنايا العسكري في مدينة صيدنايا، على بعد ثلاثين كيلومتراً شمال غربي دمشق، الذي افتتح في أيلول 1987، ومنذ ذلك الوقت يستخدم لسجن المعتقلين السياسيين، والسجناء العسكريين القضائيين.
أما ما هو أسوأ من السجون فهي المعتقلات السرية التي تتبع الأجهزة الأمنية المختلفة في البلاد، وأهمها الاستخبارات الجوية، والاستخبارات العسكرية، والاستخبارات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي. وأشد تلك الأجهزة قمعاً وأكثرها حساسية هما جهازا الاستخبارات العسكرية والاستخبارات الجوية، بينما يعتبر جهاز الأمن السياسي أكثر الأجهزة انتشاراً وتغلغلاً بين صفوف الشعب. ولجميع هذه الفروع الأمنية صلاحية اعتقال المواطنين والتحقيق معهم وزجهم في معتقلاتها السرية أو أقبية مبانيها التي تضم عشرات آلاف المعتقلين، وقد قضى الآلاف منهم نتيجة التعذيب الوحشي.
وقد اعتبر المفوض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة زيد رعد الحسين، أن سوريا بأسرها تحولت إلى «غرفة تعذيب» معتبراً أن النزاع الذي دخل عامه السابع يعد «الكارثة الأسوأ من صنع البشر» منذ الحرب العالمية الثانية.
وقال الحسين خلال نقاش على مستوى رفيع حول سوريا في مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة: «اليوم، تحول البلد بمعنى آخر إلى غرفة تعذيب، قُل إلى مكان للرعب الوحشي وعدم الإنصاف المطلق».
وأضاف ان النزاع الذي يدخل في هذا الأسبوع عامه السابع يشكل «الكارثة الأسوأ من صنع البشر التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فإن 60 ألف شخص على الأقل قتلوا خلال ست سنوات تحت التعذيب أو بسبب ظروف الاعتقال القاسية في سجون النظام السوري.
بعد الإعلان عن هذه الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب السوري، يبقى السؤال الكبير مطروحاً: كيف ومن أين ولدت داعش والنصرة، ومن صاحب المصلحة في انتشار الفكر الإرهابي المتطرف، سواء في الساحة العراقية انطلاقاً من سجون أبو غريب والموصل والرمادي، أو الساحة السورية من سجون صيدنايا وعدرا وتدمر وحلب المركزي؟ لقد حقق النظام السوري نجاحاً بارزاً عند حاجته لعتاة المتطرفين، الذين مورس العنف ضدهم في سجون النظام، السوري أو العراقي، وهم يمارسون نفس الأساليب في المناطق التي يحكمونها، سواء في سوريا أو العراق.
وإذا كانت الدوائر الأمريكية تؤكد أن شهوراً، أو سنوات قليلة، هي الباقية من عمر داعش، فذلك لأنه أنجز ما هو مطلوب منه. أما النظام فقد نجح في صناعة معادلة جديدة، بدلاً من أن تساعد القوى المؤيدة لسوريا على تحريرها من إرهاب النظام، فقد باتت أمامها مهمة جديدة، هي تحريرها من إرهاب آخر، صنعه النظام في سجونه ومعتقلاته.. الى أن يأذن الله بالفرج القريب ان شاء الله.