العدد 1414 / 20-5-2020

د. وائل نجم

برزت خلال الأسبوعين الأخيرين السجالات بين المسؤولين في الدولة، الذين شغلوا موقع القرار فيها على سنوات ماضية، إلى العلن بشكل كبير وفاضح، وتحوّلت السجالات في كثير من الأحيان إلى اتهامات مباشرة لبعضهم البعض بما يمكن أن يقال فيه على أقلّ تقدير أنّه يفتح ملفاتهم أمام القضاء للمحاسبة وإنزال ما يلزم بهم. غير أنّ ذلك من أين يأتي عندما يكون الخصم هو الحَكَم على ما قال الشاعر يوماً " فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"!

ليس مهمّاً على كل حال أكان هؤلاء هم الخصوم أم القضاة الذين يصدرون الأحكام. المهمّ هو سيادة منطق القانون والعدالة حتى تبقى الثقة قائمة بين المواطن والدولة، وهي أساساً ثقة مهتزّة، بل تكاد تكون معدومة بسبب ممارسات أولئك الذيم صادروا أو يصادرون ويحتكرون الدولة، كأنّهم هم الدولة والدولة هم.

الأسبوع الماضي خرج رئيس تيار المردة، النائب السابق سليمان فرنجية في مؤتمر صحفي مباشر على الهواء، وتحدث بما "لم يتحدث به مالك بالخمر". رفض تسليم أحد المطلوبين للقضاء وقال بكل صراحة إن القضاء في لبنان مسيّس، وذلك عندما قال إنّ بعض القضاة يأتمرون بأوامر سياسية، وأوضح أنّ هذه الأوامر السياسية تصدر عن القصر الجمهوري. والنائب فرنجية له تاريخ سياسي طويل، وشغل مواقع متقدمة في الحكومات السابقة، فضلاً عن أنّه مرشح رئاسي دائم. وعندما يصل إلى مرحلة يصرّح بهذا الوضوح عن التدخّل بالقضاء، وهو سلطة مستقلّة تماماً في نظامنا الديمقراطي البرلماني، فهذا يعني أنّنا وصلنا إلى حدود الكارثة، بل الفضيحة.

وعلى اعتبار أنّ كلام فرنجية غير صحيح، بل وفيه افتراء على بعض القضاة! لماذا لم يتحرك القضاء لمساءلة المتهمين من القضاة بالخضوع للإرادة السياسية؟ أو لماذا لم يُسأل فرنجية نفسه عن صحة وحقيقة كلامه؟ وكيف لنا كرأي عام أن لا نصدّق كلامه طالما أنّ أحداً لم يتفوّه بكلمة واحدة؟!

قبل بضعة أشهر من الآن، النائب هادي حبيش، وفي مؤتمر صحفي مباشر أيضاً اتهم بعض القضاة بالخضوع للإرادة السياسية والإصغاء إلى إيحاءات تصدر من مراكز حزبية أو دوائر ومؤسسات حكومية ودستورية، وتفبرك ملفات لمواطنين بهدف تحقيق نقاط سياسية أو مصادرة مواقع إدارية. أيضاً يومها لم يتخذ أي إجراء يبدد شكوك المواطنين بهذه الاتهامات.

أنا لا أقول أنّ كلّ ما قاله النائبان، على سبيل المثال، هو دقيق وصحيح. ولا أقول أيضاً أنّه غير دقيق وغير صحيح. الجهة التي يحق لها أن تتدخّل وتدلي بدلوها وتبدّد الشكوك وتزرع الثقة هي القضاء. ولكن للاسف هو اليوم في موقع الخصم والحكم. ولا يبدو أنّ القيّمين على هذه السلطة المستقلة التي يُفترض أن تحمي اللبنانيين بالقانون قادرون على استعادة ثقة اللبنانيين بها. وبالتالي لماذا يقبل اللبناني أن يخضع لسلطة – الأصل أنّها الحارس على حقوقه – طالما أنّه يراها سلعة بيد السلطات الأخرى، أو بالأحرى الشخصيات السياسية النافذة والمصادرة لموقع القرار الوطني؟!

أنا أقول أيضاً إنّ عدم تسليم أي متهم للقضاء، وبغض النظر عن النظرة إلى بعض القضاة، هو ممارسة فيها نوع من تقويض بنيان الدولة وهدم لهيكلها. إذ كيف يمكن لمسؤول أن يرفض الاحتكام إلى القضاء، ويرفض تسليم أحد المطلوبين ويؤمّن له الحماية خوفاً من البطش أو الإطاحة به، وفي الوقت ذاته نطالب أي مواطن عادي أن يسلّم نفسه لسلطة بات مشكوك في نزاهتها واستقلاليتها وحتى عدالتها؟! كيف يمكن لمواطن أن يثق بعد اليوم أنّ هذا القضاء أو هؤلاء القضاة المسيّسين ينصفونها إذا رأوا فيه خصماً سياسياً؟!

يا سادة هناك ملف كشف حقيقة عدالتكم وهشاشة تمسّككم بالدولة منذ وقت بعيد، إنّه ملف الموقوفين الإسلاميين في السجن، الذين مضى على توقيف بعضهم من دون محاكمات سنوات وسنوات. وبعضهم خرج من السجن بريئاً بعد توقيفه سنوات من دون سبب أو تهمة حقيقية. هؤلاء كشفوا، من خلال الظلم الذي لحق بهم أو على الأقل ببعضهم، ما جاء اليوم من هو في موقع القرار والسلطة ليقوله بشكل مباشر ومن على شاشات التلفزة. فهل تريدون أن يصدّق اللبناني بعد اليوم أنّ هناك دولة وقانون ومؤسسات وفصل سلطات واستقلال قضاء وكل هذه السمفونية التي يحلم بها كل محبّ وغيور على الوطن؟! أنتم يا سادة قضيتم على ما تبقّى من ثقة بهذه الدولة، لكن المواطن العادي سيثبت يوماً أنّه الأكثر حرصاً منكم عليها، لأنّها وطنه الحقيقي، أمّا أنتم فوطنكم هو طموحكم ومصالحكم وحسب.