تمرّ أشهر الصيف، الواحد تلو الآخر، وموضوع تشكيل حكومة العهد العتيدة يراوح مكانه. فالرئيس المكلف لا يكاد يزور قصر بعبدا، وان فعل فلا يكاد يتحدث عن أي تقدم في تشكيل الحكومة،إلا حديثه عن التفاؤل وتذليل العقبات.. حتى بات الرأي العام يرصد زيارات الرئيس الحريري ولقاءاته على أنها شأن يومي لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع الذي ينتظره اللبنانيون منذ شهر أيار حتى اليوم.
لبنان ليس دولة وليدة، فقد سبق أن تشكلت فيه عشرات الحكومات، واستغرق تشكيل بعضها مدة أطول من التي نعاني، لكن ذلك كان نتيجة صراعات سياسية معروفة ومعلنة، وبعضها الآخر كان خلال أو بعد حرب أهلية، بدأت عام 1958، ثم توقفت لتستأنف فصولها عام 1975 لتنتهي بالوصول إلى اتفاق الطائف، الذي تحوّل الى دستور عام 1990، وقد وضع النقاط على الحروف وحسم موضوع الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث: رئيس الجمهورية، والمجلس النيابي، ومجلس الوزراء.
أما اليوم، فقد سادت الساحة اللبنانية مفاهيم جديدة، تركز على صلاحيات رئيس الجمهورية وضرورة تعديل اتفاق الطائف، ليس لأن الدستور خاطئ، ولا لأن هناك خللاً ميثاقياً أو تضارباً في الصلاحيات، فلبنان نظام برلماني وليس رئاسياً، يعتمد توزيع الصلاحيات على الرؤساء الثلاثة، وقد كان التكامل والتنسيق بين الرؤساء الثلاثة نموذجياً وكاملاً. أما الحديث عن استكمال تنفيذ دستور الطائف، فلا يكاد يرفضه أحد، خاصة في الجانب المسلم من أبناء البلد، بدءاً بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وهي منوطة برئيس الجمهورية، لأن تشكيلها سوف يفضي الى اعتماد المثالثة بدل المناصفة بين الطوائف اللبنانية، وهذا ما سوف يعصف بموقع رئاسة الجمهورية، بصلاحيات كبيرة أو صغيرة. كما أن دستور الطائف ينص على تشكيل مجلس الشيوخ كجزء من التركيبة الدستورية اللبنانية، حيث تكون رئاسة المجلس من نصيب طائفة الموحدين الدروز، كما يقول معظم أركان اتفاق الطائف، وغير ذلك من القضايا.
وإذا كان رئيس الجمهورية يحاول القفز من فوق المعادلة اللبنانية التي تؤدي حكماً الى المثالثة أو ما هو أكبر، عن طريق مرسوم التجنيس الذي أحيل على الأجهزة الأمنية والمجلس العدلي، أو ترحيب بعض رؤساء بلديات أو مخاتير بعض القرى الجبلية ببقاء عائلات سورية مسيحية ليجري منحها الجنسية اللبنانية، فذلك لن يمرّ في الغالب، كما أنه لن يمس بالمعادلة اللبنانية القائمة.
وبالعودة الى أزمة تشكيل الحكومة والعقبات التي تعترض سبيلها، فإن الحديث عن ضرورة استرضاء جميع الكتل والجيوب الطائفية والمذهبية يكاد يثير العجب. فالرئيس المكلف هو الذي يجري مشاورات ويعقد تفاهمات مع زعماء الكتل النيابية، ويعود بعدها الى رئيس الجمهورية ليأخذ موافقته على التشكيلة.. دون أن يستأذن أحداً. وما يجري هذه الأيام من الحصول على موافقة الأمير طلال ارسلان، أو صهر الرئيس (باسيل) المرشح أو المؤهل لموقع رئاسة الجمهورية لا محل له من الإعراب. فمن يقول ان الحكومة ينبغي ان تمثل كل أعضاء المجلس النيابي، أو رموز الطوائف والمذاهب اللبنانية!! ومن يلزم الرئيس المكلف بتغطية جميع الكتل النيابية لتكون حكومته مقبولة؟!
ومن الواضح الآن أن هناك توجهاً لأن تكون الحكومة «حكومة العهد» أي حكومة رئيس الجمهورية، أو ولي عهده جبران باسيل، وغالباً ما سوف تكون اجتماعاتها في القصر الجمهوري، أي «قصر الشعب» في بعبدا، وليس القصر الحكومي في بيروت، وبرئاسة رئيسها سعد الحريري. وإذا ما وقع ذلك فسوف يكون النظام اللبناني ليس برلمانياً ولا حتى رئاسياً، وانما سوف يكون نموذجاً هجيناً يتولى كبره رئيس الجمهورية بالاسم، بينما يتولى مستشارو الرئيس في بعبدا وأعوان وزير الخارجية كل شؤون البلد، سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية.
أما الخروج من الأزمة الحكومية المستعصية، فيكون بأن يبادر رئيس الحكومة المكلف الى اجراء مشاورات سريعة، يستكمل فيها ما سبق أن قام به خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ويحسن هنا أن يركز على أصحاب الكفاءة، سواء كانوا نواباً أو تكنوقراط، والضابط الوحيد الذي ينبغي أن يراعى هو التوازن الطائفي حتى لا يخرق المناصفة في توزيع الحقائب. أما ما عدا ذلك فالأفضلية ينبغي أن تعطى لذوي الكفاءة، حتى تستطيع الحكومة القيام بالواجب المنواط بها، سواء في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو السياسي، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر.
هنا يمكن تشكيل الحكومة خلال ثلاثة أيام، يرفعها الى رئيس الجمهورية، فيقبلها أو يجري تعديلات عليها، وبعد ذلك يعلن للرأي العام اللبناني أعضاء حكومته، سواء قبلها رئيس الجمهورية أو رفضها. وهنا يتابع الرئيس المكلف جهوده في عملية التأليف، دون أن يتهمه أحد باسترضاء جهات خارجية أو داخلية، وتكون معه حكومة كفاءات تصوغ البيان الوزاري ليجري تقديمه بعد ذلك الى المجلس النيابي.
أما الاستمرار في مسار حكومة الوحدة الوطنية، أو ما يسمى التوافق الوطني، فسوف يستغرق مزيداً من الوقت، وقد لا تصل جهود التشكيل الى نتيجة، لأن التعددية السياسية إذا كانت موجودة في المجلس النيابي، بحيث تكون فيه موالاة ومعارضة.. فإن ذلك لا يمكن أن يتمثل في الحكومة، التي تكون مهمتها الأولى خدمة الوطن والمواطن، وتوفير الماء والكهرباء وكل مستلزمات الحياة العامة. وإذا كان الرئيس «أردوغان» قد شكل حكومته الأخيرة من ستة عشر وزيراً وعدد سكان تركيا يناهز المائة مليون، فإن لبنان ليس ملزماً بحكومة ثلاثينية أو حتى عشرينية، والشعب اللبناني أحق بهذه الأكلاف الباهظة.