تركز معظم وسائل الإعلام العربية هذه الأيام اهتمامها على حدث تونسي عادي، هو انعقاد المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية، بما في ذلك انتخاب مجلس شورى جديد للحركة، وأمين عام جديد هو راشد الغنوشي، وإجراء بعض التعديلات في منهجية الحركة.. ذلك أن المؤتمر ينعقد لأول مرة بشكل علني على الأراضي التونسية، بعد عودة رموز الحركة من الشتات، ورفع الحظر الذي فرضه النظامان السياسيان السابقان، نظام بورقيبة ونظام ابن علي.
ولعل من حق المراقبين أن يركزوا اهتمامهم على هذا الحدث، بعد أن تلاشت التيارات الفكرية والسياسية العربية، سواء كانت يسارية أو يمينية، ولم يبق في الساحة العربية سوى التيارات الإسلامية، وكان هذا واضحاً بعد ثورات الربيع العربي، ليس في تونس وحدها وانما في كل الأقطار العربية، فقد أثبتت الانتخابات النيابية فيها أن التيار الإسلامي هو الوحيد الذي استطاع الصمود، وأن تكون له مؤسساته ومؤتمراته وانتخاباته الحرّة.. لكن ما يثير العجب هو تركيز المراقبين اهتمامهم على انجاز حققته حركة النهضة، هو فصل الشأن السياسي عن الدعوي في مسار الحركة ومؤسساتها وبرنامجها، كأن هذا التوجه أمر غير مسبوق ولا مقبول في مسارات الحركة الإسلامية وفي معظم أقطارها، دون أن يعتبر أحد هذا الفصل خروجاً عن مسار الحركة ومبدئيّتها.
ففي المغرب مثلاً، كانت هناك جمعية التوحيد والإصلاح برئاسة محمد الحمداوي، وقد انتخب بعده عبد الرحيم الشيخي، إلى جانب حزب العدالة والتنمية الذي يتولى الحكم منذ سنوات برئاسة عبد الإله بن كيران. وفي الأردن، هناك جماعة الإخوان المسلمين الى جانب «جبهة العمل الإسلامي» التي تمارس العمل السياسي. وفي مصر جرى إعلان حزب «الحرية والعدالة» إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين. وفي السودان حزب المؤتمر الوطني الحاكم إلى جانب عدد من التنظيمات الإسلامية.. وهذا ما فعلته الحركة الإسلامية في فلسطين حين أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 1987، وما فعله الإخوان المسلمون في سوريا.. وغيرهم.
والحركة الإسلامية التونسية، أعني حركة النهضة، لم تعلن أبداً تخليها عن هويتها الإسلامية، وأمامها خيارات متعددة في هذا المضمار، سواء بتكامل الشأنين الدعوي والسياسي داخل اطار الحركة، أو بانشاء كيان جديد منفصل يمارس من خلاله عدد من رجالاتها الشأن الدعوي والتربوي، بما لا يعطل المسار السياسي للحركة. أما الاشكالية التي أشار إليها البعض عن عدم مشاركة رموز الإخوان المسلمين في مصر أو غيرها في جلسات المؤتمر، فذلك ما تمارسه معظم التيارات الإسلامية هذه الأيام، خروجاً من الحرج الذي يمكن أن تقع فيه لو فعلت ذلك. وهذا ما فعله حزب المؤتمر الوطني في السودان في آخر مؤتمر له.. إذ لجأ إلى ما هو أبعد، حين تبادل الرئيس عمر البشير الزيارات مع عبد الفتاح السيسي، وجرى تطبيع العلاقات وتنسيقها بين البلدين، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر..
ولعل الشيخ راشد الغنوشي (أمين عام حركة النهضة المنتخب) تلقى الرسالة الغربية واستوعبها، فالدوائر الغربية تقول انها تسعى إلى اقامة أنظمة ديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، لكنها لا تقبل «أي ديمقراطية» كما قال أحدهم بصراحة لأحد المسؤولين الإسلاميين. فالديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية غير مقبولة، والغرب -مع امتداداته العربية- لا يمكن أن يسلم أو يوافق على وصول أية حركة إسلامية إلى الحكم. وهذا ما فعله في مصر وفي تونس نفسها. فقد حققت حركة النهضة كتلة نيابية عددها 68 نائباً في الانتخابات التشريعية، وحقق حزب نداء تونس 86 نائباً، وتعاون الحزبان في الحكومة. لكن حزب نداء تونس انشق بعد أشهر، وخرج منه 32 نائباً، وباتت حركة النهضة هي الكتلة النيابية الأكبر، ومع ذلك فهي لم تطالب بحقها في تشكيل الحكومة، بل تابعت قبولها بعدد ضيئل من الحقائب الوزارية غير ذات الأهمية، سياسياً وإدارياً.. لماذا؟ ربما لأنها استوعبت الدرس الذي أودى بالحركة الإسلامية في مصر حين وصلت الى قمة السلطة، عن طريق صناديق الانتخاب.
وهنا أود التوقف في عدة أسطر عند مقولة متكررة يطرحها بعض المراقبين، سواء كان ذلك بدوافع بريئة أو خبيثة، فقد صمّت آذاننا من معزوفة مشروخة يكررها هؤلاء، تقول بأن على الحركة الإسلامية أن تراجع تجربتها السياسية، وأن زمان ما يسمى «الإسلام السياسي» قد أذن بالأفول.. ومع أن هذا المسمى غير سليم وغير مقبول، لأنه ليس هناك إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، ففي القرآن الكريم عدد كبير من الآيات التي تتحدث عن الحكم، وفي سيرة النبي وخلفائه الراشدين الكثير من الممارسات والأحكام السياسية.. فالحركة الإسلامية من واجبها مراجعة مسيرتها، سواء في مصر أو تونس أو فلسطين، لكن صفحات الحركة الإسلامية تبدو ناصعة إذا وضعت إلى جانب القوى السياسية الأخرى، قومية أو بعثية أو غير ذلك، دون أن يطالبها أحد بالمراجعة. فالحركة الإسلامية وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وإذا كانت التجربة المصرية هي محل النظر فليس فيها ما يضير، خاصة أن الحركة الإسلامية وصلت إلى السلطة عبر خمس جولات انتخابية، وقد جرى اقصاؤها عن السلطة عبر انقلاب عسكري وليس انتخابات أو استفتاء، وقد أكدت عدالتها وسلميّتها رغم كل ما تعرّضت له من اضطهاد، وسجون النظام ومعتقلاته تغص بأكثر من خمسين ألف معتقل سياسي، معظمهم من الإسلاميين.
وبالعودة إلى الحالة التونسية، لا مبرّر للقول بأن حركة النهضة تخلت عن هويتها الإسلامية، أو أنها نأت بنفسها عن انتمائها إلى الحركة الإسلامية، ذلك لأن الحركة -في تونس وغيرها- تتحرك في حقل ألغام، وهي تحاول جهدها المحافظة على أبنائها بعيداً عن السجون والمعتقلات.. وهذا ما يسأل عنه أصحاب القرار.. في المستوى العربي أو العالمي.