شهدت الساحة العربية خلال الأسبوعين الماضيين فعاليات بالغة الأهمية على الساحة الفلسطينية، إذ خرجت جموع الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، في مسيرات سلمية أطلقوا عليها اسم «مسيرة العودة الكبرى»، وذلك في ذكرى «يوم الأرض» في 30 آذار. وقد سقط في المناطق الفاصلة بين قطاع عزة والمناطق المحتلة سبعة عشر شهيداً ومئات الجرحى، رغم أن المسيرات كانت سلمية. كذلك في عدد من مدن وقرى الضفة الغربية. وقد أعلنت القوى الفلسطينية عن عزمها متابعة هذه الأنشطة والفعاليات حتى منتصف شهر أيار المقبل، الذي يعتبر الخامس عشر منه هو ذكرى النكبة (عام 1948)، يضاف الى ذلك أنه يأتي في نفس اليوم الذي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة.
في هذا الوقت الذي سالت فيه دماء اللاجئين الفلسطينيين، خرجت مواقف صادمة، وتصريحات حادة، أدلى بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال جولته الأمريكية، فقد قال في مقابلة مع مجلة «ذي اتلانتك» الأميركية «انه في حال التوصل الى سلام ستكون هناك مصالح بين إسرائيل ودول الخليج ومن بينها السعودية»، وقسم منطقة الشرق الأوسط الى معسكرين متحاربين: «مثلث الشر» الذي يضم إيران وجماعة الإخوان المسلمين، والمتطرفين مثل تنظيمي داعش والقاعدة وحركة حماس وحزب الله الإرهابيين. وفي رده على سؤال حول ما إذا كان يعتقد ان الشعب اليهودي له حق في دولة قومية في جزء من موطن أجداده، قال: «أعتقد أن كل شعب، في أي مكان» له الحق في العيش بسلام في دولته». وأضاف: «أعتقد أن الفلسطينيين والإسرائيليين لهم الحق في امتلاك أراضيهم الخاصة، لكن يجب أن يكون لدينا اتفاق سلام لضمان الاستقرار للجميع ولإقامة علاقات طبيعية».
هذا الكلام صدم الساحة العربية كلها، حتى الذين وقعوا مع إسرائيل اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وغيرها، خاصة أن ولي العهد السعودي لا تربط بلاده أية علاقات مع الكيان الصهيوني، فلا حدود مشتركة ولا مصالح متبادلة، فضلاً عن أن السعودية هي التي تضم مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومليكها هو خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد ليس مفوضاً الحديث باسم الشعب الفلسطيني أو الأمة العربية. ويعرف الجميع أن أقصى ما يمكن أن يذهب إليه الموقف السعودي هو «المبادرة العربية» التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بيروت عام 2002، ورفضها الكيان الصهيوني بشكل قاطع.. فماذا يعني التنازل العربي والسعودي من «ولي للعهد» يقوم بجولة أمريكية تستغرق أسابيع، دون تفويض عربي أو إسلامي أو فلسطيني باعتماد مثل هذه المواقف؟!
ثم ما علاقة ابن سلمان بجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس التي صنفها إرهابية، فجماعة الإخوان موجودة ومنتشرة في معظم أقطار العالم، وتكاد تكون السعودية هي القطر الوحيد الذي لا يضم تنظيماً للإخوان المسلمين، وانما هو مجرد تيار فكري ليس أكثر. أما عن علاقة هذا التيار بالمملكة العربية السعودية فهي تعود الى أربعينات القرن الماضي، بدءاً بالملك المؤسس عبد العزيز، مروراً بالملك سعود وبعده الملك فيصل رحمهم الله جميعاً. وقد شارك رجالات الإخوان في بناء المؤسسات الإسلامية والتربوية والدعوية في المملكة، فكانت «رابطة العالم الإسلامي»، و«الندوة العالمية للشباب الإسلامي» و«المجلس الأعلى للمساجد»، وغير ذلك من المؤسسات.
وقد كان الرأي العام العربي ينتظر من ولي العهد السعودي موقفاً تجاه المجازر التي ارتكبها العدوّ الصهيوني في غزة والضفة الغربية، عندما أزهق أرواح الشباب والأطفال والنساء، وكلهم كانوا يشاركون في مسيرات سلمية، مما استدعى احتجاجات واسعة من الهيئات الإنسانية العالمية ولجان حقوق الإنسان العالمية.. لكن أن يصرف ولي العهد السعودي نظره عن كل ذلك، ثم يوجه تهمة الإرهاب الى حركة حماس التي لها الفضل في تحرير قطاع عزة، واستمرار المقاومة في بقية المناطق الفلسطينية المحتلة، خاصة بعد أن قدمت دماء قادتها وزعمائها للحفاظ على الوجود العربي والإسلامي في الساحة الفلسطينية!!
رغم كل ما تسببت به المواقف التي أدلى بها ولي العهد السعودي، لكن المراقبين يؤكدون أنها لن تكون موقفاً سعودياً رسمياً، خاصة أن الملك سلمان اتصل بعدها بالرئيس ترامب، وأنه جرى التداول في هذا الاتصال (كما نقلت وكالة الأنباء السعودية) في «موقف المملكة تجاه القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في قيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس. ونقلت الوكالة أنه تم خلال الاتصال بحث العديد من القضايا الإقليمية والدولية، في مقدمتها التطورات الأخيرة في فلسطين. يضاف إلى ذلك أن الرياض سوف تستضيف مؤتمر القمة العربية أواسط هذا الشهر، وأن الموقف العربي (والسعودي) سوف يكون ملتزماً بالثوابت العربية والإسلامية إزاء القضية الفلسطينية.
لكن ليس باستطاعة أي مراقب صرف النظر عن تصريحات ولي العهد السعودي أو التهوين من شأنها، خاصة أن الرجل سوف يأتي ملكاً للعربية السعودية، وخادمآً للحرمين الشريفين، كما سيكون لمواقفه غير المنضبطة من إيران وتركيا تداعيات بالغة الخطورة والأهمية. فإيران جمهورية إسلامية، رغم أنها شيعية، ولا مبرر لخوض حرب معها تنفيذاً لمصالح وخطط أمريكية. قد يكون لها مشروعها في المنطقة، وبإمكان الدول الإسلامية الأخرى أن تكون لها مشاريعها، دون أن تخوض حرباً طائفية أو إقليمية لإثبات حضورها. كذلك تركيا، فهي دولة علمانية بمرجعية إسلامية، واستطاعت إقامة نظام ديمقراطي حرّ وعادل، وبإمكان النظام السعودي التعايش والتكامل معها فيما يحقق الأمن والاستقرار، ومواجهة الخطر المشترك الذي يمثله الكيان الصهيوني، شاء من شاء وأبى من أبى.
بقي أن نؤكد أن المنطقة مقبلة على مرحلة بالغة الأهمية والصعوبة، وما نتمناه -ويتمناه الجميع- هو أن تعود المملكة العربية السعودية إلى مكانتها اللائقة بها، بالنسبة للعرب والمسلمين، والناس أجمعين.