بعد اجراء الانتخابات النيابية في أيار الماضي وإعلان نتائجها، واجراء رئيس الجمهورية مشاورات ملزمة حصدت مائة وأحد عشر نائباً أجمعوا على تسمية الرئيس سعد الحريري رئيساً لحكومة العهد الجديد.. حبس الناس أنفاسهم بانتظار تشكيل الحكومة دون عقبات تذكر، وتوقعوا أن تكون العقبة الكؤود عند صياغة البيان الوزاري، نظراً لما قد يحمله البيان من خلاف في وجهات النظر، خاصة حول الاستراتيجية الدفاعية ومنظومة (الشعب والجيش والمقاومة) التي يتمسك بها فريق الممانعة، في حين يرفضها الفريق المقابل: القوات والمستقبل ومن الى جانبهما.
لكن عملية تشكيل الحكومة استهلكت وقتاً أطول مما كان متوقعاً، خاصة عندما كان الرئيس الحريري يغادر البلد في اجازات وجولات خارجية لا علاقة لها بتشكيل الحكومة ولا بالشأن السياسي. والآن، بعد أن استغرقت مشاورات تشكيل الحكومة قرابة ثلاثة أشهر، وتكرّرت لقاءات الرئيس المكلف مع جميع القوى السياسية، مواكبة ومعارضة.. الى أين وصل مسار التأليف، وهل في الأفق السياسي بصيص أمل بقرب تشكيل الحكومة؟
مسار التأليف ما زال يراوح مكانه، إذ هناك من يطرح أن تكون حكومة وحدة وطنية، تتمثل فيها جميع الكتل السياسية، بمعنى أن تكون مجلساً نيابياً مصغراً، حتى لا ترتفع أصوات مؤيدة وأخرى معارضة، وأن تكون هذه الحكومة هي حكومة العهد، تقضي معه الفترة الرئاسية بكاملها. وهناك من يعترض على هذا النموذج، حتى يتسنى للقوى السياسية أن يكون منها موالاة ومعارضة، وإلا فكيف يمكن لأي كتلة نيابية أن تعارض وتنتقد ممارسات الحكومة إذا كانت ممثلة فيها بوزراء!! وهذا ما يتعارض مع الفوز الديمقراطي الذي ألفه لبنان ومعظم دول العالم الحر. أما ما يسمى حكومة «وفاق وطني» فهي تتشكل عندما يكون البلد خارجاً من أزمة سياسية أو حرب أهلية، فيجري تشكيل حكومة تتمثل فيها كل القوى والتيارات السياسية، حتى لا ترتفع أصوات معارضة خارج الحكومة.
الاشكالية الأكثر صعوبة عند تشكيل الحكومة هي عدد الوزراء، والحقائب التي يتولونها. فالنغمة الرائجة هي أن تكون الحكومة ثلاثينية، أي مؤلفة من اثنين وثلاثين وزيراً، بينما الحقائب المعروفة - في لبنان وكل أنحاء العالم - سواء كانت سيادية أو خدماتية، هي ثماني عشرة حقيبة، أو أربعاً وعشرين في أقصى الحالات. وللخروج من هذه الاشكالية فقد استحدث مشكلو الحكومات حقائب أطلقوا عليها وزراء دولة، تحت عناوين ومهمات لا محل لها من الاعراب، من وزير دولة لشؤون المرأة إلى وزير دولة لمحاربة الفساد إلى وزير دولة لشؤون رئاسة الجمهورية وغير ذلك مما لا فاعلية له، فرئيس الجمهورية ممثل في الحكومة بعدد من الوزراء، ووزير شؤون المرأة لم يقدم شيئاً يذكر لنساء البلد، أما وزير مكافحة الفساد فلم يسمع له صوت ولم يقدم شيئاً لمكافحة الفساد الذي يستشري في معظم دوائر الدولة ومؤسساتها. فالقضية لا تتعدى استرضاء الكتل النيباية بعدد من الحقائب، مما يرتب على خزينة الدولة مبالغ طائلة تدفعها للسادة الوزراء ومكاتبهم ومعاونيهم ومرافقيهم. يضاف الى كل ما سبق اصرار بعض القوى السياسية على تمثيل مناطقهم بوزارات سيادية أو خدماتية، كأن الوزير جرى تعيينه في الحكومة كي يؤدي خدماته لمنطقة عكار أو الجنوب أو البقاع الذي يمثله، بينما الوزير مكلف بخدمة الشعب اللبناني، وأن يمثل الحكومة، بصرف النظر عن المنطقة التي يمثلها نيابياً، سواء كان وزير خارجية أو داخلية أو وزير شؤون اجتماعية.
لكن الأنكى من كل ما سبق، هو حصة رئيس الجمهورية في الحكومة الجديدة، فقد كان يطالب بأن يكون له ثلاثة وزراء في هذه الحكومة، ثم ارتفع العدد الى خمسة وزراء. وإذا كان هذا مبرراً خلال ولاية الرئيس ميشال سليمان، الذي جاء من قيادة الجيش الى رئاسة الجمهورية، بينما جاء خليفته (ميشال عون) عن طريق حزب سياسي حقق أوسع تمثيل في المجلس النيابي الجديد، وسيكون ممثلاً في الحكومة (حزب سياسي) بخمسة وزراء أو ستة، سواء كانت الحكومة عشرينية أو ثلاثينية. وإذا أضيف الى هؤلاء (ممثلي تكتل لبنان القوي) خمسة وزراء هم حصة رئيس الجمهورية، فقد بات يمتلك الثلث الضامن، أو المعطل، في الحكومة.
هنا نعود الى السؤال المطروح: ماذا يملك الرئيس سعد الحريري في هذه الحكومة؟ لقد انتدبته أغلبية المجلس النيابي، وكلفه رئيس الجمهورية، بتشكيل الحكومة، فهو رئيسها والناطق باسمها، والذي يترأس جلساتها في القصر الحكومي، فكم هي حصته في هذه الحكومة؟ عدد ضئيل من الوزراء، الى جانب وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي والثنائي الشيعي وحتى النواب المسلمين السنة الذين لم ينجحوا على قوائم تيار المستقبل. وبالتالي فإن موقع رئيس الحكومة بات اسماً بدون مسمى، ورئيساً بدون صلاحيات، خاصة بعد حرص رئيس الجمهورية على أن تكون معظم اجتماعات مجلس الوزراء في القصر الجمهوري في بعبدا، وليس بالقصر الحكومي في بيروت. وإذا تذكرنا أن رئيس الجمهورية جمع حشداً من المستشارين والمستشارات، من بنات الرئيس وأصهرته في قصر بعبدا، أو قصر الشعب كما كان يحب ان يسميه.. عندها ندرك كيف يمكن للرئيس سعد الحريري أن يمارس صلاحياته ويؤدي واجبه كرئيس للحكومة.
الأيام القادمة إذن سوف تحمل معها مطبات وتجاوزات ومخالفات بالغة الأهمية لاتفاق الطائف، الذي بدأت بعض القوى السياسية، لا سيما المحيطة برئيس الجمهورية تخطط لها وتمهد لها الطريق. فالرئيس المكلف هو رئيس الحكومة، أي أنه رئيس لمجلس الوزراء دون منازع، كما أن الرئيس بري هو رئيس لمجلس النواب دون منازع ولا شريك، إلا إذا فعل الرئيس ايلي الفرزلي ذلك. أما رئيس الجمهورية فهو رئيس كل السلطات، وهو «بيّ كل اللبنانيين»، فهل يتخلى هو ومن معه عن هذا الدور ليستأثر بجميع السلطات؟!