العدد 1356 / 3-4-2019
الدكتور وائل نجم

يجهد المسؤولون اللبنانيون في إعداد موازنة العام 2019، وقد قام وزير المال علي حسن خليل بجهد جبّار في هذا الإطار نظراً لمتطلبات المرحلة المقبلة اقتصادياً. فالجميع يعرف ويدرك جيداً أن الوضع المالي في لبنان بات على شفير الإنهيار، وهناك قلق كبير عند شرائح كثيرة ومتعددة من تراجع سعر الصرف، وتالياً من الانهيار الاقتصادي والمالي الكلّي، لذا يفضّل الكثيرون الفرار بأموالهم إلى مناطق آمنة للحفاظ عليها، وهذا ما نشاهده ونشعر به من خلال حجم الشركات والمؤسسات التي تعلن إقفال أبوابها، أو الانتقال إلى مناطق أخرى في العالم.

الجميع يدرك أيضاً أن لبنان بحاجة إلى ضخ أموال جديدة في دورته الاقتصادية لإنعاشها، ومن هنا كان التوجه نحو الدول المقرِضة، أو ما يسمّونها المانحة في مؤتمرات باريس المتتالية. لقد اشترطت تلك الدول، ومؤسسات مالية ونقدية أخرى إصلاحات جذرية على مستوى الإدارة والاقتصاد من أجل تمويل مشاريع يحتاجها لبنان. ومن بين هذه الاصلاحات المطلوبة أن يتم العمل على خفض مستوى العجز، وتحفيز الانتاج وما سوى ذلك من أمور واشتراطات أخرى.

في مسيرة إعداد الموازنة جرى البحث عن كثير من الصيغ التي تخفّض الإنفاق الحكومي، وتتيح مجالاً لتأمين وفر مالي معيّن من أجل استخدامه في تنمية بعض المشاريع، فضلاً عن خدمة الدين العام. وبحسب ما تسرّب عن أجواء تلك المسيرة فإن كل وزير في وزارته فضّل عدم خفض ميزانيته، وتمسّك بما رآه حقاً له وللوزارة، وبالتالي فإن العمل في سياق الخفض لم يكن شيئاً سهلاً ومتاحاً بشكل سلسل.

المهم الآن أن ما تسرّب عن القطاعات التي سيطالها الخفض , وزارات كثيرة منها تقدّم خدمات مباشرة للمواطنين، ومنها من تسهم ولو بشكل غير مباشر في تخفيف الأعباء المالية عنهم، كما في القطاعات التي تتولى الدولة تأمين الدعم لها. وهنا يأتي السؤال الذي يؤرّق اللبنانيين, هل خفض الإنفاق وسد العجر يجب أن يكون حصراً على حساب ذوي الدخل المحدود والطبقة المسحوقة؟!

رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، النائب السابق وليد جنبلاط، دعا إلى بدء عملية خفض الإنفاق من خفض رواتب الوزراء والنواب، وإلغاء المخصصات المالية للنواب السابقين، وكذلك الأمر بالنسبة للقضاة والضباط والعسكريين المتقاعدين بحيث يتم الاكتفاء مع هؤلاء بصرف رواتب تقاعد لهم دون تعويضات صرف، أو بدفع تعويضات صرف دون دفع رواتب تقاعد وهكذا دواليك.

في لبنان اليوم هناك غياب شبه تام للعدالة الاجتماعية. هناك مشرّع ينظر فقط باتجاه واحد. هذا الاتجاه هو تأمين حياة ومستقبل شريحة معينة منخرطة في مؤسسات الدولة والحكم للحفاظ على هذا الهيكل والتحكّم به، في حين أن الدولة ملك لكل أبنائها، وبالتالي فهم يتحملون مسؤوليتها، لا فرق في ذلك بين من يعمل داخل مؤسساتها، ومن يعمل خارج هذه المؤسسات.

اليوم العدالة الاجتماعية مفقودة في البلد إذ أن العامل في القطاع الخاص، في أي معمل أو شركة أو مهنة حرّة يلقى نفسه متروكاً ومقطوعاً ومعزولاً، وربما يستجدي لقمة العيش عندما يبلغ سنّ القتاعد (64 سنة). يتحوّل مع الأسف إلى عبء حقيقي على أبنائه، خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، والتي لا يجد فيها الشباب فرص عمل، وإن وجدوا، فإنها لا تغني من جوع. في حين أن العاملين في القطاع العام ينصرفون في مثل هذا العمر ليتنعّموا بحياتهم، ومنهم من ينصرف قبل هذا العمر بكثير إلى ممارسة حياته الطبيعية، بل منافسة العاملين في القطاع الخاص، وقد تسلّح بتعويض صرف قد يبلغ عشرات الملايين من الليرات، أو ربما مئات الملايين، فضلاً عن راتب تقاعدي يحلم به العامل بدوام كامل في القطاع الخاص. هنا يبرز الفرق، وهنا يبرز غياب العدالة الحقيقية التي تجعل المواطن العادي يكفر بالدولة والنظام الاجتماعي والاقتصادي، بينما يتحوّل العامل في القطاع العام إلى جزء من آلة مستخدمةفي الحفاظ على الذين يحمون الهيكل ويتصرفون به كيفما يريدون.

اليوم أي إجراء لخفض الإنفاق وسدّ العجز سيطال ذوي الدخل المحدود، وسيجعل أزمتهم تتفاقم، في حين أن المطلوب هو إرساء قواعد العدالة الاجتماعية التي تنصف المواطنين، وتشعرهم بأن الدولة حاضنة للجميع، لأن الجميع يقدّم الخدمات لهذه الدولة، كل من موقعه ومسؤوليته. هذا فضلاً عن أهمية إقرار الآليات التي تكافح الفساد الحقيقي وتضبط الهدر الذي ينتفع به في أغلب الأحيان حارسو الهيكل.

د. وائل نجم