العدد 1364 / 29-5-2019

تكرّرت زيارات المسؤولين الأمريكيين وتكثّفت في الفترة الأخيرة إلى لبنان، ونشطت المساعي الأمريكية خلال هذه الفترة على خط الوساطة بين لبنان وحكومة كيان الصهيوني، لا سيما فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية بين لبنان والمياه الإقليمية الفلسطينية التي يحتلها هذا الكيان. وقد تولّى مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، السفير السابق في لبنان، ديفيد ساترفيلد، هذه الوساطة، فالتقى خلال الأيام القليلة الماضية رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ووزير الخارجية جبران باسيل، حاملاً إليهما ردّ حكومة الاحتلال الإسرائيلي على بعض المقترحات الأمريكية المتصلة بالوساطة؛ كما كان قد التقى قبل ذلك بأيام قليلة رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة سعد الحريري، وقد أجمعت المواقف التي صدرت عن كل المسؤولين اللبنانيين على التمسّك بالسيادة اللبنانية على الأراضي والمياه اللبنانية، ورفض التفريط ولو بشبر واحد من الأراضي، أو بقطرة واحدة من المياه، خاصة تلك التي تتصل بالحقول النفطية والغازية المكتشفة في البحر المتوسط.

لقد كشفت الإدارة الأمريكية أن لدى واشنطن رغبة في القيام بوساطة بين لبنان وكيان الاحتلال لحلّ مسألة ترسيم الحدود البحرية، خاصة وأن هناك خلافاً على ترسيم حدود الطرفين في "البلوك" النفطي رقم 9. إلا أن لبنان تمسّك بترسيم الحدود البرية أيضاً، خاصة وأن هناك نقاطاً حدودية قد تحفّظ لبنان عليها عندما تمّ ترسيم الخط الأزرق في العام 2000، وكذلك فإن لبنان يتمسّك بلبنانية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي تتعامل معها حكومة الاحتلال باعتبارها أراضي سورية. إلا أن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه في ظل هذا المسعى الأمريكي يتمثّل بالخلفية التي يتحرك وينطلق منها الأمريكي من ناحية، والهدف الذي يسعى إليه جراء هذه الوساطة، خاصة وأن لبنان إلى الآن لم يبدأ استخراج النفط او الغاز , في حين أن حكومة كيان الاحتلال استفادت من ذلك منذ وقت طويل .

لا بدّ أن نتذكّر أن المسعى الأمريكي باتجاه لبنان في هذه المرحلة يتزامن مع الحديث عن قرب الإعلان عن صفقة القرن التي تحدثت عنها الإدارة الأمريكية باعتبارها تمثّل رؤية الرئيس، دونالد ترمب، لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وهي في حقيقيتها تصفية للقضية الفلسطينية وليس تسوية لها، وفي هذا السياق يشار إلى أن الإدارة الأمريكية طرحت موعداً للإعلان عن الصفقة بعد عيد الفطر المبارك، وبالمناسبة هي ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها تحديد موعد للإعلان عن الصفقة ومن ثم يصار إلى تأجيل ذلك.

كما أن المسعى الأمريكي يتزامن مع مساعي أمريكية لعقد موتمر اقتصادي في المنامة بالبحرين تحت عنوان الازدهار الاقتصادي وتأمين تمويل ودعم مالي لـ "دول الطوق"، ومن المفترض أن ينعقد المؤتمر أواخر شهر حزيران المقبل، وقد يكون لبنان من الدول المدعوة لحضور المؤتمر من دون معرفة موقف الحكومة من هذا الموضوع حتى الساعة.

كما أن المسعى الأمريكي يتزامن مع تهديدات أمريكية لإيران، وحشود عسكرية في المنطقة تنذر بانزلاق الأمور في أية لحظة إلى المواجهة المحدودة أو المفتوحة، وإن كان منسوب هذه التهديدات والتحذيرات تراجع لصالح الحديث عن المبادرات والوساطات والمفاوضات خلال الأيام الأخيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

من الواضح أن الأمريكي يريد من خلال وساطته، ومن خلال مؤتمراته التي يعمل على تنظيمها في المنطقة، ومن خلال التهديد بالمواجهة والحرب والتلويح بهما، يريد أن يحضّر الأرضية الكاملة لاستمكال خطوات تنفيذ صفقة القرن التي ستصفّي القضية الفلسطينية. وهو من خلال زياراته إلى لبنان يريد أن يقدّم عدة عروض تصبّ في اتجاه تأمين عناصر نجاح الصفقة.

أول هذه الأمور، يريد الأمريكي أن يضمن تأمين الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة في أية مواجهة محدودة أو مفتوحة في المنطقة سواء كانت قريبة أو بعيدة، من خلال ترسيم الحدود البحرية وحتى البرّية، وبذلك ينزع، بحسب اعتباره، أحد الذرائع، لأن الأمريكي يعرف أن أحد الأسلحة المهمة التي تملكها إيران في المنطقة هي امتلاك حزب الله لمنظومة صواريخ متطورة ودقيقة وتطال معظم الأهداف في فلسطين المحتلة، بينما يعتبر الأمريكي أن أمن "إسرائيل" مقدّم على كل الأولويات، ولذلك ربما يكون قدّم عروضات، أن لوّح بتهديدات في حال خرجت الأمور عن السيطرة.

وأما ثاني هذه الأمور، فقد تكون في تقديم الأمريكي إغراءات للمسؤولين اللبنانيين على المستوى الإقتصادي والمالي، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلد، وهنا من غير المستبعد أن يكون قد طرح مسألة بدء لبنان باستخراج نفطه وغازه بضمانة أمريكية، كما قد يكون من غير المستبعد أن يكون قد طُرح على المسؤوليين اللبنانيين تقديم تعويضات مالية كبيرة مقابل توطين اللاجئيين الفلسطينيين في لبنان، وتفكيك المخيمات الفلسطينية، ونزع سلاحها، وهذا بالطبع أحد بنود صفقة القرن. كما قد لا يكون مستبعداً أن الأمريكي قد يغضّ الطرف عن بعض المصالح لحلفاء إيران في لبنان مقابل السكوت على مسألة صفقة القرن وما تتضمنه في الموضوع اللبناني، ولذلك وجدنا أن أمين عام حزب الله، السيّد حسن نصرالله، أكد خلال آخر كلمة له على رفض صفقة القرن، ورفض التوطين والاستعداد لهذه المعركة داعياً القيادات الفلسطينية إلى حوار مشترك حول هذا الموضوع.

وأما الأمر الثالث بالنسبة للأمريكي فقد يكون فرض المزيد من الضغوط على الحكومة والسلطة في لبنان من أجل التسليم للإرادة الأمريكية التي تريد الهيمنة على المنطقة.

يبقى المهم أن الأمريكي في كل تحركاته ووساطته يقدّم مصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي على كل شيء، لأنه بالنسبة إليه أولوية، وهذا ما يجب أن يفطن له المسؤولون في لبنان من دون التعامل مع الأمريكي كقدر أصاب المنطقة.

د. وائل نجم