كثيرون ممن يتحدثون عن الأزمة اللبنانية وإشكالية تقديم الرئيس سعد الحريري استقالة حكومته من الرياض، يركزون على حل الإشكال الناشئ عن استقالة الرئيس الحريري من الرياض وليس من بيروت، وأنه لم يقدمها في كتاب رسمي إلى رئيس الجمهورية، فيقبلها أو يؤجل ذلك للتشاور حولها. لكن يمكن القول ان هذه المرحلة من الأزمة قد انتهت، وربما باتت وراءنا، خاصة بعد الظهور المتكرر للرئيس الحريري، واللقاء الذي جمعه بالبطريرك الماروني في مكان إقامة الأخير بالرياض، ووعوده المتكررة بالعودة الى بيروت، قريباً.. أو قريباً جداً. لكن هل هذا يعني أن الأزمة قد انتهت؟ قد تكون صفحة منها قد طويت، لتبدأ المرحلة الأهم من الأزمة بعد عودة الحريري وتقديم استقالته رسمياً إلى رئيس الجمهورية.
قد يستغرق ذلك أياماً، لكن لبنان أمامه استحقاق وشيك داهم، هو مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي ينعقد بدعوة من المملكة العربية السعودية في القاهرة، وموضوعه الرئيسي هو الاعتداءات التي تمارسها إيران ضد عدد من الدول العربية، ماذا سوف يفعل لبنان ممثلاً بوزير خارجيته، وإن حضر المؤتمر ماذا سيقول، وبأي اتجاه سوف يصوّت؟! لذلكف فقد وضع عدد من المسؤولين حداً لغياب الحريري عن بيروت، يوم الأحد القادم، ليدلي برأيه حول هذا الموضوع، سواء عبر موقف سياسي أو بانعقاد مجلس الوزراء ليحدد موقف لبنان الرسمي من الموضوع المطروح.
هنا تبدأ المرحلة الأهم من الأزمة.. هل يستطيع الرئيس الحريري استمرار تعايشه مع كتلة الوفاء للمقاومة في المجلس النيابي، مع وزيريها في حكومته.. أم أنه يقرر الفراق لتبدأ مرحلة تشكيل حكومة لبنانية جديدة؟! قد يكون الأمر سهلاً لولا العناوين العريضة التي أعلنها الرئيس الحريري، سواء في خطاب استقالته أو في تغريداته، يضاف إلى ذلك أن الحكومة التي شكلها الحريري مهمتها الأولى هي استكمال صياغة قانون الانتخاب والاشراف على الانتخابات المقررة في شهر أيار القادم.
هنا لا بدّ من التوقف عند محطتين أساسيّتين: الأولى أن الرئيس الحريري سوف يعود الى بيروت بشروطه التي أعلنها خلال اطلالاته المتكررة، وأكدها الذين التقوه في الرياض وأبرزهم البطريرك الراعي، وقد عقد هذا الأخير لقاءات بالغة الأهمية مع العاهل السعودي الملك سلمان وولي عهده ومعهما وزير الخارجية والداخلية ووزير شؤون الخليج، وذلك بعد اللقاء الذي جمعه بالرئيس الحريري. وعندما سئل البطريرك الراعي عن مدى قناعته بأسباب استقالة الرئيس الحريري، أجاب بأنه مقتنع بأسباب استقالة الحريري، داعياً رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تحمّل مسؤولية إيجاد حلول تسهِّل عودة رئيس الحكومة المستقيل الى لبنان. يضاف الى ذلك أن كل الدبلوماسيين الذين التقاهم الحريري في الرياض، يتبنون هذه الرؤية، وسوف يؤكدونها للبطريرك الراعي عند زيارته لروما وكذلك لوزير الخارجية جبران باسيل خلال جولته الأوروبية. ومهما بلغ التزام الرئيس عون تحالفه مع حزب الله، فلن يجعله يضحي بعلاقاته مع الدول الغربية، وإلا فسوف يعزل نفسه عربياً وأوروبياً وأمريكياً كما بات واضحاً للجميع.
المحطة الثانية هي أن الرئيس الحريري كسب زخماً شعبياً ووطنياً داخل البلد منذ تقديم استقالته في الرابع من تشرين الحالي. وباتت شرائح لبنانية واسعة تنظر إليه على أنه ضرورة وطنية بل قومية في علاقاته العربية، بصرف النظر عن نظرتها الى احتجازه أو حرية تحركه في السعودية. وبالإضافة الى نظرة الشارع المسلم الى استقالة الرئيس الحريري والظروف التي يعيشها منذ تقديم استقالته، فإن الرأي العام المسيحي لا يختلف مع الآخرين في هذه النظرة. فحزب الكتائب كان وما زال يرفض التسوية حول رئاسة الجمهورية وكذلك تشكيل الحكومة. أما رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع فقد سبق له أنه قال بأنه «كان أول المقتنعين بأسباب استقالة حليفه رئيس الحكومة». وقد شكل تدفق القوى السياسية من مختلف الطوائف والتوجهات السياسية على دار الفتوى عاملاً هاماً في حشد الرأي العام مع سماحة مفتي الجمهورية وحرصه على إشاعة أجواء التهدئة والاستقرار ريثما يعود الرئيس الحريري من السعودية. يضاف الى ذلك ما أدلى به وزير التربية مروان حمادة بعد زيارته دار الفتوى مع وفد من اللقاء الديمقراطي والحزب التقدمي الاشتراكي، مما يدعم موقف الرئيس الحريري في الأزمة المستحكمة.
لبنان لا يستطيع الاستمرار بدون حكومة، والحكومة لا تنعقد جلساتها بدون رئيس، والرئيس حتى الآن هو سعد الحريري، الى أن تقبل استقالته أو تؤجل.. وتجري انتخابات نيابية تشرف عليها حكومة وحدة وطنية أو تكنوقراط أو زاهدين في مقاعد المجلس النيابي. وبعدها يكون لكل حادث حديث. فإذا ما عاد الرئيس الحريري وأصرّ على تقديم استقالته، لا بدّ من مشاورات حول شخص الرئيس المكلف، ويفترض أن لا يكون الرئيس الحريري، لأنه سيكون رئيساً لحكومة انتخابات ليس أكثر.. الى أن يأتي مجلس نيابي جديد تنبثق عنه حكومة جديدة.
كل ما سبق يستدعي اجراء تسوية سياسية، تغطي المرحلة القادمة بما فيها الإشراف على الانتخابات. هذه التسوية لا بدّ لها من طاولة حوار، أو مؤتمر وطني يرسم معالم المرحلة القادمة. وكما جرى التوافق على «إعلان بعبدا» قريباً من نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، لا بدّ من طاولة حوار جديدة يجري حولها التوافق على إعلان جديد، يحمل عنوان إعلان «بيت الشعب» كما يريد ويرغب الرئيس عون، ولو كان ذلك قريباً من بداية ولايته.
ختاماً، لا بدّ من التذكير بأن لبنان يعيش هذه الأيام في عالم عربي متفجر، من الخليج العربي إلى الهلال الفارسي، وخير له أن يصل الى تفاهم وطني أو تسوية سياسية.. من أن يعاني سجالات مربكة تجري المقايضة فيها بأن تكون اليمن للسعودية مقابل لبنان لإيران.. بعد أن تشظى العراق وتكاد تنقسم كردستان التي انفصلت عنه. وأحسب أن اللبنانيين يملكون من القدرات السياسية ما يعينهم على الخروج من أزمتهم بأقل الخسائر الممكنة.