التفجير الإرهابي الذي أصاب ملهى ليلياً في مدينة استامبول ليلة رأس السنة الميلادية، وأوقع عشرات القتلى والجرحى، هزّ تركيا والعالم، وحمل رسالة إلى الجميع -وإلى لبنان بصورة خاصة- أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وأنه لا يمكن مواجهته والقضاء عليه بالوسائل والإجراءات الأمنية وحدها. وقد بذلت دول العالم جهوداً واسعة من أجل محاصرة الإرهاب ومحاولة القضاء عليه، لكنها كلها باءت بالفشل، لأن ظاهرة الإرهاب ليست وليدة اليوم، ولا حديثة عهد بنشر خطرها. وإذا كانت اليوم تحمل تسمية «الإسلاموفوبيا» فذلك لأن العرب والمسلمين هم أوسع كتلة يظهر في ثناياها الإرهاب، ليس لأنهم مسلمون، ولكن لأن العرب والمسلمين منذ مطالع القرن العشرين، هم الذين عانوا، وما زالوا يعانون القمع والحرمان والاستبداد، سواء على مستوى عالمي أو إقليمي.
في خمسينات القرن الماضي نشأت في أقطار أمريكا الجنوبية منظمات إرهابية ومتطرفة، نتيجة الحرمان الذي كانت تعاني منه شعوب تلك المنطقة. كما نشأت منظمات إرهابية ومتطرفة في مناطق جنوب شرق آسيا، انطلاقاً من الظلامات التي عانت منها تلك الأقطار بعد الحرب العالمية الثانية، والصراع الياباني الأمريكي بعد قصف هيروشيما ونكازاكي بالقنابل النووية. لكن نجاح النموذج الياباني وبعده الصيني امتص مشاعر النقمة على العالم الغربي، وقذف بمسمّيات الإرهاب والتطرف الى الشرق الأوسط، والعالم العربي بصورة خاصة، بعد النكبة الفلسطينية وتشريد الشعب الفلسطيني وقيام دولة «إسرائيل» على أرضه المغتصبة.
في أواسط ستينات القرن العشرين الفلسطينية انطلقت الثورة الفلسطينية، وكانت طليعتها المنظمات القومية واليسارية، لأن هذه التيارات كانت تملأ الساحة العربية. وعلى الرغم من مشاركة كثيرين من رموز الحركة الإسلامية الفلسطينية في انطلاق حركة فتح، إلا أن هؤلاء الإسلاميين كانوا يتوارون بانتمائهم، نظراً للتوجهات القومية واليسارية التي كانت تسود الساحة العربية، لا سيما بعد الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر والسودان والعراق واليمن وغيرها. وما زال العالم يذكر أكبر عملية إرهابية نفذتها حركة فتح مطلع السبعينات في مطار ميونيخ في دورة أولمبياد، التي جرى فيها اختطاف عشرات اللاعبين، قتل منهم تسعة عشر رياضياً إسرائيلياً وخمسة فلسطينيين وآخرون من الألمان، وكان المسمى «أبو داود» على رأس تلك العملية. كذلك كانت عملية اختطاف عدد من الطائرات المدنية في الأردن، والعملية التي نفذتها الفلسطينية ليلى خالد.. وغيرها.
في أواخر السبعينات كان الغزو السوفياتي لأفغانستان، وكان الإسلاميون في طليعة الذين ذهبوا عبر باكستان كي يتصدوا للغزو السوفياتي. وكانت الشعوب العربية (لا سيما الخليجية) في طليعة الذين كانوا يجمعون التبرعات ويتلقون الدورات العسكرية للمشاركة في مساعدة الشعب الأفغاني المظلوم. وكان من هؤلاء «أسامة بن لادن» وهو سعودي كان يقيم في السودان، فرحل الى أفغانستان ليشارك في حرب تحرير أفغانستان، وكان دوره اغاثياً لأبناء المجاهدين النازحين الى بيشاور، حيث التقى استاذه «عبد الله عزام»، الفلسطيني الأردني الذي أتم دراسته الشرعية في مصر، وعمل فترة في السعودية ومثلها في اليمن، لينتقل بعدها الى بيشاور وينسق مع أسامة بن لادن الأداء الإغاثي والتربوي، والتنسيق بين فصائل المجاهدين.
هنا بدأت علامة الاستفهام الواسعة حول ما سمي «التطرف الإسلامي»، فقد جرى ترحيل أسامة بن لادن عن السودان بشكل غير مبرّر، حيث أقام منشآت ومشاريع اقتصادية، ليجري بعدها اغتيال «عزام» في بيشاور.. ليقع ابن لادن فريسة لدى بعض عتاة المتطرفين المصريين الذين أفرج عنهم من السجون المصرية ليذهبوا الى أفغانستان. يضاف إلى ذلك أن طائرات أمريكية كانت تحمل مساعدات غذائية ومواد إعلامية، وهي تحمل هوية وشعارات بعض الدول العربية الخليجية. وكان بين المجاهدين في أفغانستان شباب من معظم أقطار العالم الإسلامي، عادوا الى أقطارهم بعد انسحاب السوفيات من أفغانستان وهزيمة مشروعهم فيها، ليصبح العائدون من أفغانستان متهمين بالتطرف كما هي حال العاملين مع «داعش» في سوريا، الى أن كانت الطامة الكبرى بتفجيرات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، والحرب العالمية على الإرهاب «الإسلامي» دون سواه. ما هو الدور الأميركي في اطلاق التطرف من أفغانستان؟ هذا ما يحتاج إلى استكشاف تلك المرحلة زماناً ومكاناً.
العنصر الأهم في اطلاق «الإرهاب» في العالم العربي هو الدور الذي قامت به عدد من الأنظمة العربية، وأبرزها سوريا والعراق. فقد سبقت الإشارة في هذه الزاوية الى عمليات الإفراج عن مجموعة من «المتطرفين الإرهابيين» من سجن حلب المركزي وسجن صيدنايا قرب دمشق، ليشكلوا نواة التطرف في الساحة السورية، كذلك الإفراج عن قدامى الضباط العراقيين البعثيين من رجال صدام حسين، لينتقلوا من الموصل في العراق الى الرقة في سوريا، ومطالبة وزير الداخلية العراقي بمحاكمة ستة من ضباط السجن لمسؤوليتهم عن فرار هؤلاء المساجين.
ولم ينس اللبنانيون بعد، الدور الذي قام به شاكر العبسي عام 2007 بعد الإفراج عنه في سجن صيدنايا ويتم تأهليه في العراق، ليجري ارساله الى لبنان، في مخيم شاتيلا ثم مخيم النهر البارد لينشئ تنظيم «فتح الإسلام» الذي شغل لبنان عدة أشهر، واستدعت مواجهته سقوط عشرات القتلى من جنود الجيش وتدمير المخيم والمنطقة المحيطة به.
لذلك، فإن مواجهة الإرهاب لا تستدعي اجراءات أمنية فقط، ولا ملاحقة إرهابيين ومراقبة الحدود، بل ما هو أوسع وأكبر بكثير..