بعد انتظار استمر سنتين وعشرة أشهر، تشكلت الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري، بعدما انتخب المجلس النيابي العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وإذا كانت الانتخابات الرئاسية قد أجريت بعد سلسلة مبادرات وتنازلات صدر معظمها عن الرئيس الحريري حرصاً على مستقبل البلد وأمنه واقتصاده، كما يقول أنصار الرئيس الحريري، أو حرصاً منه على أن يعود رئيساً لمجلس الوزراء كما يقول الفريق الآخر.. فإن عملية تشكيل الحكومة استدعت تنازلات واسعة، استرضاءً لرئيس الجمهورية الجديد وفريقه السياسي والطائفي، مما سوف تكون له تداعياته عند أول استحقاق تواجهه الحكومة، وهو صياغة البيان الوزاري الذي سوف يجري طرحه في المجلس النيابي لتحوز الحكومة على أساسه الثقة.
بدءاً بتشكيل الحكومة، يجري رئيس الجمهورية مشاورات ملزمة لأعضاء المجلس النيابي، يجري بعدها تكليف من يحوز الأغلبية البرلمانية بتشكيل الحكومة، سواء كانت حكومة اجراء انتخابات أو تصريف أعمال، قصيرة الأجل أو طويلة الأمد. وقد لاحظ المراقبون أن الرئيس المكلف كان يتنقل بين قصر بعبدا حيث رئيس الجمهورية وعين التينة حيث منزل رئيس المجلس النيابي، وقد بدا الرئيس المكلف مجرد ساعي بريد ينقل الى الرئيسين نتائج مشاورات أو يتلقى منهما وجهات نظرههما في الأسماء المطروحة. وقد برزت عدة أسماء أسندت الى أصحابها عدة حقائب وزارية لم تكن مطروحة في الساحة السياسية، فهل يصبح هذا الأسلوب عرفاً معمولاً به (دستورياً) في الساحة اللبنانية؟
الجانب الآخر عند تشكيل الحكومة، هو المراوحة بين أن تكون الحكومة ثلاثينية (من ثلاثين وزيراً) أو من أربعة وعشرين، مع أن عمرها لا ينبغي أن يزيد عن ستة أشهر، سواء جرى الالتزام بآخر تمديد للمجلس النيابي أو اعتمدت الهرطقة الدستورية التي تصف التمديد القادم بأنه «تمديد تقني»، ولا أدري الفرق هنا بين أيّ من التمديدين المخالفين للدستور!
لكن الاشكالية الأكبر عند تشكيل الحكومة برزت في الحقائب وتوزيعها على ثلاثين طامحاً في الحقيبة الوزارية. فماذا عن حقيبة المرأة التي يتولاها رجل.. وماذا عن حقيبة «التنمية الإدارية» التي أسندت إلى طبيبة تحاليل طبية، قالت -وقال الرئيس المكلف- انه لم يكن يعرف عنها شيئاً، سوى طرح الرئيس بري لاسمها قبيل إعلان الحكومة. وماذا عن وزارات شؤون النازحين، ورئاسة الجمهورية، وشؤون مكافحة الفساد، وغيرها من الحقائب التي تحتاج الى برامج وخطط ودراسات، مع أن عمر الحكومة لا ينبغي أن يزيد على أشهر قليلة، حتى تجري الانتخابات النيابية في موعدها المقرر أو قريباً منه؟!
ثم ماذا قبل ذلك وبعده عن الكوتا النسائية، فقد توقف الرؤساء الثلاثة عند ضرورة مشاركة المرأة في الحياة السياسية، سواء في المجلس النيابي أو مجلس الوزراء، وطرح بعضهم أن لا يقل نصيب المرأة عن ثلاثين في المئة من أعضاء الحكومة، والمجلس النيابي، بموجب «كوتا نسائية» يجري ادراجها في قانون الانتخابات المطلوب اجازته في أول انعقاد للمجلس النيابي بعد التصويت على الثقة بالحكومة.
كل هذه المطبات والمخالفات جرى تجاوزها والسماح بها من أجل الاسراع في تشكيل الحكومة، وكلها مع الأسف الشديد جاءت من طرف واحد هو رئيس الحكومة المكلف، الطرف الذي يناط به أمر تشكيل الحكومة بناء على المشاورات الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية. أما رئيس المجلس النيابي فهو رئيس لكتلة نيابية وليس لصفته رئيساً لمجلس النواب. وإذا كان هذا الرئيس المكلف قد أبدى مرونة كبيرة وأطلق مبادرة غير مسبوقة عند تسمية رئيس الجمهورية المرشح، فإن الواجب والعرف يقتضيان أن يردّ له الطرف الآخر التحيّة بمثلها وليس الاستمرار في استنزافه ودفعه باتجاه المزيد من التنازل، لأن هذا ما ينعكس على رصيده الشعبي ووزنه الحكومي والنيابي، خاصة أن حكومته قد يمتد بها الأجل لتتحول الى حكومة تصريف أعمال، أو حكومة تتولى مسؤوليات المجلس النيابي، كما تولت حكومة الرئيس سلام مسؤوليات رئيس الجمهورية، الذي عانى مركزه شغوراً امتد أكثر من ثلاثين شهراً.
أخيراً، تأتي المصالحة الوطنية اللبنانية وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وفاقية، في وقت تشهد فيه الساحة الإقليمية مصالحات وتفاهمات وطنية غير مسبوقة. وإذا كان المراقبون يرون أن الأزمة اللبنانية كانت ولا تزال موازية للأزمة السورية، فإن انعقاد مؤتمر موسكو وبعده في كازاخستان وجنيف، مؤشر واضح على أن الأزمات تؤذن بالأفول. فالأزمة الليبية تكاد تطوى صفحاتها بالوصول إلى تفاهم على حكومة وفاق وطني، والأزمة اليمنية تتجه الى الحلحلة بعد وصول أطرافها الى طريق مسدود، خاصة بعد إعلان دولة الكويت استعدادها لرعاية مفاوضات مصالحة وطنية بين طرفي النزاع في اليمن. وإذا كان وزراء خارجية تركيا وإيران قد استطاعوا الجلوس حول طاولة واحدة مع وزير الخارجية الروسي في موسكو، في غياب التمثيل الأميركي عن هذه المفاوضات، فإن وقف اطلاق النار الذي تلتزم به جميع أطراف الصراع في سوريا، يبشر بقرب التفاهم على حل سياسي تتبناه جميع الأطراف، الإقليمية والدولية، ويقبل به الشعب السوري الذي انهكته الصراعات الداخلية والحرب التي سمّيت أهلية.
وبانتظار أيام قليلة قادمة، سوف تكون الحكومة (حكومتنا) قد أنجزت بيانها الوزاري، لينعقد المجلس النيابي كي يناقش البيان الذي يكرر الجميع أنه سوف يشكل انعكاساً لخطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية بعد التصويت على انتخابه أمام المجلس النيابي..
كل ذلك إذا صدقت النوايا وسقطت خيارات سوء الظن التي يراهن عليها الكثيرون. لأن لبنان جزء من المنطقة وأزماتها كما هو جزء من أمنها واستقرارها، والعودة الموعودة إلى الحياة الطبيعية التي يفترض أن يرحب بها الجميع.