أمر غير مسبوق ما جرى ويجري حولنا في العالم العربي والعالم هذه الأيام. فقد كانت دول عربية تختلف مع جاراتها العربيات أحياناً، لكن الخلاف لم يكن يصل إلى اغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية، فكيف بدول الخليج أن يقع فيها مثل هذا؟! وهي مجموعة كيانات عشائرية تكاد أنظمتها السياسية تكون واحدة، وكذلك علاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وأن يقع هذا الانقسام بعد أسابيع من انعقاد القمة العربية الإسلامية العالمية في العشرين من شهر أيار الماضي، وتشهده 54 دولة ممثلة برؤسائها، وعلى رأسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.. ليعود وقد حمل مئات مليارات الدولارات، بعد إلقائه خطباً وزّع فيها الاتهامات شرقاً وغرباً باسم المؤتمر دون أن يسأله كيف ولماذا. ودون مبرّرات أو مقدمات، في الخامس من حزيران، تصدر أربع دول خليجية (بالإضافة إلى مصر) لائحة مطالب، تطالب فيها دولة قطر بالتزامها، وإلا فالمقاطعة والحصار.
في الولايات المتحدة الأميركية، أكبر وأوسع ديمقراطية في العالم، تباينت الرؤى والمواقف مما قاله ترامب، سواء من الأزمة الخليجية أو من روسيا أو إيران، وهذا ما يقع لأول مرة في الإدارة الأمريكية. والأكثر غرابة هو الاجراءات التي اتخذها ترامب إزاء كبار موظفيه ومعاونيه. فبعد ستة أشهر فقط في البيت الأبيض يطرد ترامب من العمل كبير الموظفين كاتي والش، ومدير الاتصالات مايك دوبكي، والناطق الرئاسي شون سبايسر، والمساعد للاتصالات مايكل شورت. وإذا كان كل هؤلاء من الموظفين المدنيين، فقد عيّن الرئيس الجنرال جون كيلي، ثم طرد مدير الاتصالات بعد عشرة أيام قبل أن يتسلم عمله رسمياً. وإذا كانت بعض دوائر الكونغرس الأميركي قد فشلت في عزل الرئيس فهي تعمل الآن على حظر ترشحه لولاية رئاسية ثانية في الانتخابات القادمة.
هذا الاضطراب الدستوري والسياسي ليس في الإدارة الأمريكية وحدها ولا في الساحة الخليجية.. وانما انتشر في الساحة الأوروبية العريقة في ديمقراطيتها، لا سيما بعد الانتخابات التي أوصلت رئيسة حزب المحافظين في بريطانيا الى رئاسة الحكومة، والانتخابات النيابية الفرنسية التي حملت حزب ايمانويل ماكرون الى الرئاسة الأولى، متجاوزاً الأحزاب الفرنسية العريقة كالحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي. والأغرب من كل هذا ان تكون زوجته (بريجيت) هي معلمته في مرحلة الدراسة، وهي أكبر منه سناً (64 عاماً)، لتنطلق حملة شعبية في الشارع الفرنسي تطالب بحظر تمتع الزوجة بلقب السيدة الفرنسية الأولى، وأن تكون لها صلاحيات في المؤسسة الرئاسية الفرنسية.
لا أريد العودة الى العالم العربي واستعراض وجود الأبناء والأحفاد وذوي القربى في مؤسسات الدولة، لا سيما القصر الملكي أو الأميري أو رئاسة الجمهورية.. ولا العودة الى لبنان حيث تسود هذه الأيام عمليات توظيف الأقرباء والأنسباء، والأصهار وزوجاتهم مسؤولات في مؤسسات الدولة أو القصر الرئاسي، مما كان يتجنبه رؤساء الجمهورية السابقون أو رؤساء الحكومات أو رؤساء المجالس النيابية، حيث كان هؤلاء يكتفون بزرع الأقرباء والأنسباء في أجهزة الدولة ومؤسساتها، مما كان لا يبدو فاقعاً كما هي عليه الحال.
ماذا عن لبنان اليوم، وقد غادرت حكومته عاصمتها بيروت، الى حيث كان يصطاف الرئيس في بيت الدين، أو الساحل البحري حيث كان الرئيس لحود يمضي معظم أيامه ولياليه.. الى جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك، حيث استفاقت بعد سبات طويل الى أن هذه الجرود محتلة، وأن فيها مجموعات إرهابية تشدّ إليها مجموعات من الشباب اللبناني المغرر به.. اضافة إلى أنها كانت -وما زالت- مفتوحة أمام الميليشيات التي غادرت لبنان الى الأراضي السورية، لتشارك في الحرب المفتوحة منذ بداية عام 2011، ولتحول دون سقوط النظام الحاكم في دمشق استجابة لطموحات شعبه.
لقد حقق «حزب الله» نجاحاً في دفع عناصر تنظيم «النصرة»، إلى الداخل السوري في ادلب وجوارها، بصرف النظر عن مبررات مشاركته في هذه المعركة من دون بقية أبناء الشعب اللبناني، خاصة أن هذه المعركة كانت تدور في معظمها خارج الأراضي اللبنانية. أما المعركة القادمة، معركة الجيش اللبناني مع «تنظيم الدولة - داعش» فهي كذلك تلقى قبولاً وتأييداً من كل شرائح الشعب اللبناني. لكن ماذا عن تأكيد الدولة على أنها هي المسؤولة عن هذه الجرود، وان حزب الله يشارك الجيش في معاركه الدفاعية عن الأراضي اللبنانية. والأمل كبير في أن يتحقق هذا الأمل ويستطيع الجيش تحرير كل حدود لبنان الشرقية من المجموعات «الإرهابية» التي لجأت إليها خلال مواجهاتها مع قوات النظام والميليشيات التابعة له.
لكن المجموعات القتالية التابعة لحزب الله تنتشر في كل الأراضي السورية، سواء على الحدود الشرقية أو الشمالية وجزء من الجنوبية. ماذا لو اضطرت الى الانسحاب يوماً ما، منتصرة كانت أو مهزومة، وهي تحمل أسلحة ثقيلة ومتوسطة، وتفصلها عن الحدود الجنوبية مع الكيان الصهيوني مئات الكيلومترات.. كيف يمكن أن تبرّر وجودها على الأراضي اللبنانية، خاصة أن قوات الاحتلال سوف تكون جاهزة لضرب أي وجود عسكري في الجنوب اللبناني، سوى التابع للجيش اللبناني أو قوات الطوارئ الدولية؟!
ان ما بعد المشاركة في الحرب السورية لن يكون كما هو قبلها، وسوف يدخل لبنان في أزمة جديدة هي أكبر من أزمة سلاح المقاومة... فضلاً عن احتمالات سقوط النظام ووقوع القوات المشاركة في حمايته أمام كل الاحتمالات.