العمليات العسكرية التي استهدفت بلدة عرسال وجرودها، وامتدت الى جرود رأس بعلبك والقاع في البقاع الشرقي، منحت حزب الله زخماً سياسياً كان يفتقده طيلة السنوات الست الماضية. فالحزب كان يتحرك كمقاوم للاحتلال الإسرائيلي منذ اطلاقه أواسط ثمانينات القرن الماضي، رغم المطبات والسقطات التي انزلق فيها خلال أدائه السياسي والأمني. لكن انغماسه في الحرب الدائرة في سوريا منذ مطلع عام 2011، وقتاله الى جانب النظام ضدّ شعب أعلن ثورته سعياً الى الحرية والديمقراطية والكرامة الوطنية والانسانية.. كل ذلك يكاد يطمس فضائل المقاومة وانجازاتها.. الى أن كانت مواجهاته الأخيرة ضد تنظيمات «النصرة» و«داعش» وأخواتها، بما حقق هزيمة هذه المجموعات وجلاءها عن الأراضي والحدود اللبنانية، الى الداخل السوري.. مما لا يعني المواطن (أو المراقب) اللبناني.
لكن الممارسة السياسية لحزب الله، سواء في الحقل العام أو في مجلس النواب أو داخل الحكومة اللبنانية، باتت توحي ليس فقط بتجاوز الدولة اللبنانية ومؤسساتها المدنية والعسكرية، بل بأنه بات يشكل بديلاً عن هذه الدولة، انطلاقاً من أنه حرّر أرضها ودافع عن حدودها ويشكل أكبر قوة سياسية في البلد، سواء داخل طائفته أو على امتداد الساحة اللبنانية. ذلك أن القوى الأخرى تعاني أزمات واشكالات تضعف وزنها السياسي، لا سيما إذا ما وضعنا في حسابنا نتائج الانتخابات النيابية القادمة، إذا اعتمدت القانون النسبي. فالساحة المسيحية مشققة وتعاني خلافات جذرية بين القوى المارونية، وتيار المستقبل يعاني ضعفاً في الأداء وانقسامات كبيرة وخللاً في المرجعية العربية، سواء منها السياسية أو المالية.. لتبقى الساحة الشيعية مرتبطة بمرجعية شرعية ومالية وسياسية غير قابلة للاهتزاز أو المراجعة، مما ينعكس تماسكاً في الوزن السياسي والانتخابي، وبالتالي داخل الحكومة والمجلس النيابي.
خلال الأسبوعين الفائتين انزلقت الدولة اللبنانية، ممثلة بالحكومة التي تشارك بها القوى السياسية الرئيسية في البلد، في أزمة بدأت عندما أعلن عدد من الوزراء عزمهم القيام بزيارة الى سوريا للمشاركة في احتفالية معرض دمشق الدولي، وأن تكون هذه الزيارة رسمية، أي باسم الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني، مما أثار موجة من الاحتجاج.. فالزيارة حتى تكون رسمية ينبغي أن تجيزها الحكومة، وهذا ما لم يحصل، إذ عندما طرح الموضوع في مجلس الوزراء لم تحقق الزيارة أغلبية في المجلس، وكان أبرز المستنكرين رئيس الحكومة.. لكن الوفد ذهب إلى دمشق، سواء كانت زيارته شخصية أو رسمية، وكان معظم الوزراء من حركة أمل وحزب الله، أي بغطاء واضح من الحزب.. وطويت الصفحة عند عودة الوفد، بتمسك كل فريق بموقفه ووجهة نظره.
بعد ذلك قام الرئيس سعد الحريري بزيارة الى فرنسا، التقى خلالها رئيسي الجمهورية والحكومة الفرنسية وأجرى عدة مقابلات اعلامية ومؤتمرات صحفية، وحقق خلال زيارته نتائج ايجابية، سياسية واقتصادية. هنا انبرى أحد نواب حزب الله ليقول بأن الرئيس الحريري لم يستشر مجلس الوزراء فيما قال أو فعل، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع النظام السوري، مع أن النظام، وعدداً من كبار موظفيه، متورطون بجرائم ما تزال تنظر بها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وبعضها أصدر فيها القضاء اللبناني أحكاماً واضحة، لا سيما قضية ميشال سماحة والعبوات المتفجرة التي نقلها من دمشق الى بيروت، واعترف بأسماءكبار المسؤؤلين السورين الذين طلبوا منه نقل العبوات وتفجيرها.
الجانب الأهم في الموضوع أن الرئيس الحريري يتمتع بصفة الناطق الرسمي باسم الحكومة اللبنانية، وهو، بنص الدستور، «يمثل الحكومة اللبنانية ويتكلم باسمها..»، فماذا نسمي اطلاق كبار المسؤولين في حزب الله صفة (ارهابيين وتكفيريين) على كل الفصائل التي تشارك في الثورة ضد النظام!! وماذا يمكن ان نصف مشاركة حزب الله في القتال داخل سوريا، وعبورهم الحدود اللبنانية السورية دون اجازة من أي مسؤول لبناني، مدني أو عسكري؟!
حزب الله مشارك في الحكومة اللبنانية بوزيرين، ومن حق كلّ منهما أن يطرح ما لم يعجبه من تصريحات الرئيس الحريري، أو أن يغادر مجلس الوزراء. أما الكلام الذي أدلى به النائب نواف الموسوي، فهو خارج عن نطاق الأدب السياسي والصلاحيات الدستورية، ومن حق الرئيس الحريري أن يسائله أمام مجلس النواب، أو أن يسائل ممثلي كتلته النيابية في مجلس الوزراء، أما استمرار الانفلات السياسي على ما هو عليه فهو الفوضى بعينها.
وإذا كان الناطقون باسم حزب الله معتدّين بالانجاز الذي تحقق في جرود عرسال وبعلبك والقاع، فإن ما وقع لا يمكن اعتباره نصراً، خاصة أن ذلك جاء في سياق تراجع القوى «الإرهابية» على الساحتين السورية والعراقية، وأنه جاء بدعم من الجيش السوري والمقاتلين معه، وأنه وقع في منطقة حدودية واضحة المعالم. أما ما يقال عن تنسيق مع «النصرة» في المرحلة الأولى لتغطية عبورها الأراضي السورية الى جرود أدلب، ومع «داعش» خلال عبوره الأراضي السورية من غربها الى شرقها، وما وقع من تدخل أمريكي، وتواطؤ من قوات النظام.. فذلك ما يحتاج الى مزيد من التمحيص والدراسة، ليتبيّن الموقف الذي كان يعتمده حزب الله في علاقاته مع هذه القوى.
خاتمة القول.. يمكن للقوى السياسية أو الفصائل المسلحة أن تنجح حيناً وأن تخطئ الطريق أحياناً أخرى، لكن غير المقبول هو أن تتخلى عن أصالتها ومبدئيتها، خاصة إذا كان التزامها شرعياً وكانت مرجعيتها إسلامية. و«داعش» و«النصرة» ما زالا تحت المجهر، من جهّز ومن درّب ومن وجّه.. ومن أفرج عن قيادات هذه التشكيلات في الساحتين السورية والعراقية، ومن أمن لها المال والسلاح وأوصلها الى أنابيب النفط والغاز.. ومن أسقط مدن الموصل وتلعفر ودير الزور خلال ساعات.. لتستغرق استعادتها أكثر من تسعة أشهر.. هذا ما يحتاج الى أجوبة شافية، ودور حزب الله فيه.