العدد 1461 /12-5-2021

فعلها من جديد أبناء القدس ومحيطها القريب والبعيد في الأراضي المحلتة عام 1948 وفي الضفة الغربية وتصدّوا لمخططات الكيان الصهيوني الرامية إلى اقتلاع أهل القدس من بيوتهم وأحيائهم، وإلى تدنيس المسجد الأقصى وتدميره وصولاً إلى بناء وتشييد الهيكل المزعوم، إلى تغيير معالم المدينة التاريخية المقدّسة حتى تغدو غريبة وغربية وإسرائيلية الطابع والطبع، وتمكّن المقدسيون والفلسطينيون في هبّة وانتفاضة عظيمة من إفشال تلك المخططات وإسقاطها، وأكّدوا على تمسكّهم بأرضهم وبيوتهم ومقدساتهم الاسلامية والمسيحية على حدّ سواء، وعلى عدم التفريط بها مهما غلت التضحيات وعظُمت البلايا، وقد سطّروا خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك أروع أنواع البطولة والشموخ في التصدّي للاحتلال الإسرائيلي، ولقطعان "المستوطنين" بالصدور العارية والرؤوس الشامخة والقبضات التي استخدمت الحجارة والزجاجات البلاستيكية وما توفّر أمامها من مواد، ومنعوه من اقتحام المسجد الأقصى، ومن تهجير أهالي حيّ الشيخ جرّاح، على الرغم من حجم البطش والعنف الذي استخدمته قوات الاحتلال في مواجهة المقدسيين العزّل إلاّ من إيمانهم بقضيتهم وقرار الحفاظ على مقدساتهم وحقوقهم.

كما استند المقدسيون ومن معهم من جوارهم في الضفة والأراضي المحتلة عام 48 إلى عمق -يمكن أن نقول عنه اليوم بكل راحة - إنّه استراتيجي، فرض معادلة جديدة في الصراع لن يكون من السهل العودة عنها. هذا العمق هو غزّة بمقاومتها الشامخة الباسلة، وأهلها الأعزاء الشامخون المضحّون الذين كانوا على العهد، ووفوا بالعهد. هذا العمق الذي تدخّل في اللحظة الحاسمة الفارقة وأكّد للإسرائيلي أنّ القدس ليست متروكة، وأنّ أهل القدس ليسوا وحدهم في هذه المواجهة التي استعضفهم فيها وظنّ أنّ بإمكانه أنّ يخرجهم من أرضهم وبيوتهم ويدنّس مقدّساتهم، فإذا بهذا العمق الاستراتيجي. إذا بغزة ومقاومتها الراشدة والرشيدة تدخل على خط المواجهة نصرة لأهل القدس، وتضع حدّا لغطرسة الاحتلال، وتجبره على الانكفاء عن ساحات المسجد الأقصى وعلى فك الحصار عن حيّ الشيخ جرّاح، وتفرض معادلة جديدة لم تكن معهودة من قبل مفادها أنّه بعد اليوم لن يكون مسموحاً أن يستفرد المحتل بأيّة بقعة من بقاع فلسطين، أو أن يستسهل اقتحام ساحات الأقصى أو أحياء القدس وغيرها. معادلة مفادها أنّ المقاومة جاهزة للحفاظ على الهوية. هوية القدس. هوية فلسطين. هوية المقدسات. معادلة مفادها أنّ المسّ بالفلسطيني في أيّة بقعة من بقاع فلسطين لن يمرّ من دون حساب أو عقاب. وقد أرت المقاومة العدوّ من نفسها ما يؤكّد له ذلك، ففي اللحظة التي كان يسمح لقطعان "المستوطنين" بالتجمّع والتهيّؤ لاقتحام الأقصى، واقتلاع أهالي حيّ الشيخ جرّاح من حيّهم، جاءتهم صواريخ المقاومة من غزة تدكّ محيط الأحياء الإسرائيلية في القدس لتؤكّد لهم أنّ المعادلة باتت واضحة. تهجير أحياء "المستوطنين" في القدس مقابل اقتلاع أهالي حيّ الشيخ جرّاح من حيّهم. وضرب العمق الإسرائيلي الحيوي مقابل اقتحام المسجد الأقصى. كان العدو يظنّ أنّ وعيد المقاومة الفلسطينية له مجرد كلام وتهويل، ولكنّه أدرك الحقيقة عندما أصيب هو وقطعانه بالذهول والخيبة وهم يسمعون صفير صواريخ القسّام تزمجر فوق رؤوسهم فلاذوا بالفرار لا يعرفون كيف يهربون ولا أين يختفون. لقد استنجد المقدسيون بالقائد محمد الضيف القائد العام لكتائب القسّام، ووعدت الكتائب ومعها كل فصائل المقاومة الفلسطينية في سرايا القدس والفصائل الأخرى، ووفت بوعدها وبرّت بيمينها، وأكّدت للمقدسيين ولكل الفلسطينيين أنّها عمقهم الذي يمكن بعد الآن أن يركنوا إليه.

أمّا وقد حوّل الاحتلال معركته إلى غزّة حتى يكسر شوكة المقاومة، وحتى يلغي معادلة الردع الجديدة عبر غاراته الحربية بطائراته المتطوّرة، فقد خاب أيضاً بالخسران المبين، تمكّنت المقاومة الفلسطينية من توجيه ضربات عنيفة وقوّية له في عمق الأراضي المحتلة دفعت آلاف "المستوطنين" بالتفكير والتصريح برغبتهم بمغادرة كيان الاحتلال وإلى الأبد.

بكل بساطة يمكن القول إنّ انتفاضة القدس عبر صمود المقدسيين، ومناصرة أهالي الضفة الأبيّة، وأرض 48 المتمسّكين بجذورهم على الرغم من كل محاولات التغريب التي فرضت عليهم، وغزّة الأبية الشامخة بمقاومتها وصواريخها بدّدت الوهم الإسرائيلي، وأسقطت مشروعه وإلى الأبد، وأنّ هذه الانتفاضة، وهذه المعادلة الجديدة هي بداية التحوّل الاستراتيجي التي ستكون فيها المبادرة اعتباراً من اليوم بيد الفلسطيني، والتي ستأخذ بالتطوّر التدريجي وصولاً إلى اليوم الذي يتحقّق فيه النصر الموعود. وأمّا صراخ وتهديد قادة الاحتلال اليوم فليس أكثر من صرخة الإفلاس التي لن تعيد عقارب الزمن إلى الوراء.

د. وائل نجم