يبدأ الموسم السياسي في لبنان عادة عند انتخاب رئيس جديد للجمهورية، الذي يبدأ معه عهد سياسي جديد، لمدة أقصاها ست سنوات. تكون السنتان الأولى والثانية للترحيب بسيّد العهد وذكر حسناته ومبررات انتخابه. والسنتان الثالثة والرابعة ينسى خلالها الناس الرئيس ويركزون على رئيس الحكومة. أما الخامسة والسادسة فيجري التركيز فيها على التمهيد للرئيس القادم، على اعتبار أن التمديد أو التجديد محظوران بموجب الدستور اللبناني.
لكن يبدو أن الفترة التمهيدية في العهد الذي نحن فيه، والتركيز على ممارسات الرئيس ومحاسن عهده، جرى اختصارها في عام واحد، بدأت في بداية عام 2017 وانتهت مع نهاية ذلك العام وإطلالة عام 2018. وعلى الرغم من تسليم عدد من الحقائب الوزارية لوزراء أكفاء، إلا أن وريث العهد، ووزير خارجيته، ورئيس حزبه (الوطني الحر) جبران باسيل، يطوي صفحات الزمن من خلال تصريحاته وجولاته الانتخابية داخل البلد وخارجه في أقطار الاغتراب.
وإذا كان الرئيس عون قليل الأخطاء لأنه قليل الكلام، ولأنه حشد في القصر الجمهوري عدداً غير مسبوق من المستشارين والمستشارات، جلّهم من الأقرباء والأصهار والأنسباء. وبدلاً من أن تهتم الدولة اللبنانية بالمناسبات الرسمية، وطنية أو دينية أو سياسية، عن طريق الوزير المختص.. فإن الرئيس عون يقيم المناسبات في القصر الجمهوري أو الطريق المؤدي إليه بحضور حشد من المستشارين وذوي القربى.. فتقام شجرة الميلاد وتقطع الطرق ويؤم القصر الوزراء والسفراء.. وكلهم يهنئون ويباركون لسيد العهد، الذي عمل طويلاً من أجل الوصول الى هذا القصر، الذي كان يسمّيه «قصر الشعب» حين عمل طويلاً من أجل الوصول إليه منذ عام 1988 حتى اخراجه منه عام 1990.
وإذا كان لبنان على أعتاب انتخابات نيابية بعد ثلاثة أشهر، والوزير باسيل يمارس حملته الانتخابية، سواء في دائرته المعروفة (البترون)، أو في بقية المحافظات اللبنانية، فإن خياراً آخر يمهد له الوزير باسيل.. فالرئيس عون تجاوز الثمانين، ويعرف المعنيون بالشأن الطبي أن الفحوصات والاختبارات التي يجريها بشكل دائم لا تبشر بصحة جيدة أو بمستقبل زاهر، فضلاً عن أن الرجل هو ابن المؤسسة العسكرية، التي لا تقارب كثيراً الشؤون السياسية. وبالتالي فإن باسيل يرغب بإلحاح بأن يكون جاهزاً للوراثة، سواء عند نهاية الولاية أو في أي وقت قريب. وعلى هذا فهو ينشط في كل المجالات السياسية والانتخابية، التي لا علاقة لها بالحقيبة السياسية التي يشغلها (وزارة الخارجية). يضاف الى كل ذلك أنه يستغل مبنى الخارجية لعقد لقاءات حزبية مع أطراف لا علاقة لها بالوزارة. مع أن أمامنا نموذجاً آخر من الوزراء تخلوا عن مسؤولياتهم الحزبية بعدما أسندت إليهم حقائب وزارية، فالوزير ملحم رياشي مثلاً، تخلى عن مسؤوليته كمسؤول إعلامي في حزب القوات اللبنانية حين أسندت إليه حقيبة الإعلام في الحكومة اللبنانية، وإلا فمتى يتحدث أو يصرّح الوزير باسيل بصفته رئيساً لحزبه أو وزيراً للخارجية؟
وبالعودة الى القضية التي أثارت عاصفة الخلاف بين الوزير باسيل ورئيس المجلس النيابي نبيه بري.. لقد مرت أيام على الحدث، وكل يوم يمر يستدعي المزيد من التصريحات، بعضها يحمل الطابع السياسي وبعضها الآخر الطابع الطائفي والمذهبي، وقد دخل رئيس الجمهورية على خط الخلاف بعد صدور بيان عن القصر الجمهوري أدان فيه (الخطأ الذي بني على خطأ.. والدعوة الى التسامح)، وقال: «من موقعي الدستوري والأبوي أسامح جميع الذين تعرضوا إليّ والى عائلتي»، فأين هو الكلام الذي صدر عن الوزير باسيل من هذه المسامحة؟! أما الطرف الآخر الذي أدان تصريح الوزير باسيل، وكذلك امتناع الرئيس عون عن ادانة الكلام النابي الذي صدر عنه.. وهو توجه يمثل معظم اللبنانيين وزعماء الكتل السياسية خارج التيار الوطني الحر، حتى من خصوم الرئيس بري والمختلفين معه سياسياً.. فإن نبرتهم ترتفع يوماً بعد يوم وتزداد حدّة، فالرئيس بري (بصفته رئيساً للمجلس النيابي) لم يعد شخصية سياسية عادية مثل بقية أعضاء المجلس أو حتى الوزراء وغيرهم، واللقب الذي كان يتمتع به رئيس المجلس حتى سبعينات القرن الماضي، لم يكن «دولة الرئيس» كرئيس مجلس الوزراء، أو «فخامة الرئيس» كرئيس الجمهورية، وانما كان ينادى (عطوفة الرئيس) أيام الرئيس صبري حمادة أو كامل الأسعد.. لذلك فإن ما ينادي به عدد كبير من النواب ليس أن يعتذر باسيل من الرئيس بري، وإنما أن يقدم استقالته كوزير للخارجية، أو أن يطلب منه رئيس الجمهورية التنحي، لأن الكلام الذي صدر عنه لم يعد يكفي فيه مجرد الاعتذار.
لكن القضية الأكثر أهمية في الموضوع هي دخول رئيس الجمهورية على خط الأزمة المستحكمة، فقد اعتبر أن هناك خطأ جرى ارتكابه مقابل خطأ آخر، الأول يتعلق بالكلام الذي صدر عن الوزير باسيل، مقابل خطيئة نزول جماهير حركة أمل وأنصار الرئيس بري الى بعض الشوارع، مستنكرين الكلام الذي صدر عن باسيل.. وهذا لا يشكل اعتذاراً، لأن قوى الأمن قامت بواجبها وأوقفت عمليات احراق الدواليب والاعتداء على بعض مراكز التيار الوطني الحر، وقد صدرت هذه الممارسات عن جماهير ناقمة بعد خطاب صدر عن وزير مسؤول في الحكومة اللبنانية، يعرف الجميع تمثيله السياسي في الحكومة وموقعه من رئيس الجمهورية.
أما الحرج الشديد فهو الذي يقع فيه حزب الله، ما بين علاقته الحميمة مع الرئيس بري وتحالفه الدائم معه، وتمسكه بالتحالف مع الرئيس عون وتياره السياسي.. والتمسك به مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية.. الى ان وصل قصر بعيدا.. فإلى أين تصل بلبنان هذه المواجهة؟!