يفاخر اللبنانيون بأنهم في بلد ديمقراطي، واعتبروا اجراء الانتخابات النيابية انجازاً ديمقراطياً حضارياً طال انتظاره، منذ عام 2009، وأن هذا الانجاز سوف يحاصر الفساد وينشر الأمن والاستقرار، بعد أعوام من الفوضى والتراجع الأمني والاقتصادي. لكن ما يقع في الساحة السياسية بعد اجراء الانتخابات والبدء بعملية تشكيل الحكومة لا ينسجم مع هذه التوقعات.. لا سيما سيادة الحرية والديمقراطية.
تعرّضت الانتخابات النيابية لكثير من الطعون، والاتهام بالتزوير والتدخل في النتائج التي أعلنت. وعلى الرغم من أن أحداً لم يمنع مرشحاً من أن يتقدم بطعن أمام المجلس الدستوري حول عمليات الاقتراع أو احتساب الأصوات أو اعلان النتائج، فإن الطعون التي جرى إعلانها لم تتوفر فيها الاثباتات والأدلة التي يشترطها المجلس الدستوري، وبالتالي فإن معظم الطعون المقدمة، أو كلها، هي مجرد طعون سياسية وإعلامية، بينما كان الواجب يقضي بأن تتولى هيئة الإشراف على الانتخابات ملاحقة هذه الطعون وتقصي الوقائع التي أدت إليها، مما لا يتوفر للمواطن العادي أو المرشح. ولو عدنا الى الانتخابات العراقية التي جرت يوم 12 أيار الجاري، لوجدنا أن هيئة الإشراف على الانتخابات حققت في الاتهامات لمجرد طرحها أمام وسائل الإعلام، وأصدرت قرارات بشأن نتائج الانتخابات في بعض المحافظات العراقية، كما أبطلت نتائج الانتخابات التي جرت في الخارج، بعد الطعن بعدالتها. أما نحن في لبنان فقد اعتبر الجميع أن النتائج الأولية للانتخابات هي نتائج نهائية، رغم الكثير من الطعون، لا سيما في نقل صناديق الاقتراع، وما أحاط بعمليات الاقتراع في الخارج ونقل الصناديق الى لبنان. وهذه كلها منوطة بوزارة الداخلية، التي يتولاها الوزير نهاد المشنوق، الذي تحيط باسمه شوائب كثيرة بعد الانتخابات، لا سيما ضمن اطار تياره السياسي.
نعود الى الديمقراطية اللبنانية، فبعد اجراء الانتخابات يجري رئيس الجمهورية مشاورات ملزمة لاختيار رئيس الحكومة، حتى يكلفه رئيس الجمهورية بأن يجري مشاورات لتشكيل الحكومة، ليبدأ استشاراته مع الكتل النيابية التي يرى أن تتشكل منها الحكومة. وهنا لا بدّ من تفعيل القاعدة الديمقراطية التي تقضي بأن يشكل رئيس الأغلبية النيابية حكومته ويرفعها الى رئيس الجمهورية، تمهيداً لاعتمادها وتقديمها الى المجلس النيابي كي تنال الثقة. وهنا لا بدّ من التذكير بأن الأصل في تشكيل الحكومات أن تكون من فريق رئيس الوزراء والقوى السياسية المؤيدة له أو المتعاونة معه، وتسري على هؤلاء تسمية «الموالاة» بينما ليس من الضروري تمثيل قوى المعارضة في الحكومة، حيث يبقى نواب المعارضة في المجلس النيابي، يتولّون مراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها، وصولاً الى حجب الثقة عنها إذا استدعت ممارساتها ذلك.
أما نحن في لبنان، فقد سادت في أوساطنا السياسية تسمية «حكومة الوحدة الوطنية» وهذا يعني أن تتمثل كل القوى السياسية في الحكومة، مما يجعل المعارضة السياسية وتصويب أداء الحكومة داخل مجلس الوزراء وليس في مجلس النواب. والأسوأ هو ان تضم الحكومة ممثلين عن كل القوى السياسية، بقدر ما تملك هذه الكتل من نواب، وبذلك تنعدم الديمقراطية التي تقوم على موالاة ومعارضة، ويتحول المجلس النيابي الى قاعة اجتماعات موسمية، لانتخاب رئيس الجمهورية ومنح الثقة للحكومة، أما تصويب أداء الحكومة، ومحاسبة الوزراء، فذلك ما لا محل له في المجالس النيابية اللبنانية، لأنه يجري عبر وسائل الإعلام بين ممثلي القوى السياسية المشاركة في الحكومة.
الأمر الذي يعتبر تراجعاً في الحياة الديمقراطية اللبنانية هو التحوّل الذي أصاب صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء نفسه، فمن المعروف بعد دستور الطائف أن السلطات الاجرائية باتت منوطة بمجلس الوزراء، وهو «السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة، ومن صلاحياتها وضع السياسة العامة للدولة، والسهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على كل أجهزة الدولة..»، و«يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقر خاص، ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر..»، لذلك فقد أقيم مقر خاص لمجلس الوزراء بعد اتفاق الطائف مقابل المتحف الوطني، الى أن تولى الرئيس رفيق الحريري ترميم ما يسمى «السراي الكبير» لتكون مقراً لمجلس الوزراء. أما أن تكون اجتماعات مجلس الوزراء في قصر بعبدا، حيث القصر الجمهوري، فذلك ما لا مكان له في الدستور، حيث بات أعضاء الحكومة (ورئيسها) أقرب إلى أن يكونوا جزءاً من فريق عمل رئيس الجمهورية ومستشاريه ومستشاراته في «قصر الشعب»، وهذا ما يستدعي أن يتولى رئيس الجمهورية رئاسة جلسات الحكومة، لأنها في معظمها تعقد في قصره وليس في المقر الرسمي للحكومة.
لعل السبب في ذلك ان الرئيس سعد الحريري ابن عائلة تقليدية يحترم فيها الصغير الكبير، وهو صغير السن قياساً بالرئيس ميشال عون الذي تخطى الثمانين، لكن الممارسات الأبوية التي باتت تقليدية هذه الأيام، أصبحت عرفاً معمولاً به في كل المجالات، خاصة أن فريق رئيس الجمهورية أطلقوا عليه اسم «الرئيس القوي»، وعلى حزبه السياسي (التيار الوطني الحر) اسم «تكتل لبنان القوي» مما دفع الدكتور سمير جعجع لأن يطلق على حزبه اسم «تكتل الجمهورية القوية»، كل ذلك اندفاعاً الى موازاة تحالف حزب الله وحركة أمل تحت عنوان «الثنائي الشيعي».
وما يؤمله اللبنانيون من الحكومة التي يجري تشكيلها، ليس أن تكون مؤلفة من ثلاثين أو 32 وزيراً، ولكن أن تكون حكومة فاعلة، تعالج الشأن السياسي والاقتصادي.. لأن البلد لا يحتاج كثيراً الى وزير للفساد وآخر لشؤون المرأة وثالث لشؤون القصر الجمهوري ورابع للمجلس النيابي.. كل ذلك ارضاء للكتل النيابية، وهدراً للأموال والمخصصات فيما لا طائل تحته.