بعد مضي أكثر من مئةيوم على تكليفه تشكيل الحكومة اللبنانية، عرض الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة، سعد الحريري، تشكيلته الحكومية المبدئية على رئيس الجمهورية، ميشال عون، في قصر بعبدا بعد ظهر الإثنين (3/9/2018) وضمّت ثلاثين مقعداً وزارياً موزّعين مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وبحسب أحجام الكتل السياسية في المجلس النيابي، ووففق صيغة، قال الحريري عنها، إنه لا منتصر فيها. إلا أن الرئيس عون، وبحسب بيان مكتب الإعلام في القصر الرئاسي، أبدى ملاحظات على الصيغة المقترحة، وطلب إعادة النظر فيها، وبذل المزيد من التشاور، سواء بينه وبين الرئيس المكلّف، أو بين الرئيس المكلّف وبين القوى السياسية.

القصر الرئاسي لم يكشف عن طبيعة الملاحظات التي وضعها الرئيس عون على تشكيلة الحريري، إلا أن الصحف اللبنانية كشفت هذه الملاحظات، وقالت إن بعضها يتصل بحجم الوزارات التي أُعطيت لحزب القوات اللبنانية (منافس حزب الرئيس في الساحة المسيحية) وهي أربع وزارات خدمية , وبعضها يتصل برفض الرئيس عون إعطاء الزعيم الوطني الدرزي، وليد جنبلاط كل المقاعد الوزارية المخصصة للدروز, فضلاً عن رفض احتكار التمثيل السنّي في الحكومة عند الرئيس الحريري.

ولكن في المقابل تعتبر بعض القوى السياسية أن الحقيقة التي تقف خلف رفض الرئيس عون لتشكيلة الحريري المدعومة من رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، هي في طموح عون وفريقه السياسي ( حزب التيار الوطني الحر) للإستئثار بالحكومة والسلطة، واستعادة زمن ما كان يُعرف بـ "المارونية السياسية" وصلاحيات رئيس الجمهورية، من خلال تكريس أعراف دستورية جديدة، حتى لو كان فيها مخالفة للنص الدستوري، وذلك عبر الحصول على أحد عشر وزيراً في الحكومة تمكّنه من تعطيل أي قرار سيادي، وتجعل الحكومة تحت أمره بشكل شبه كامل، في وقت لا يتمتّع هو وفريقه بأغلبية نيابية في المجلس النيابي. وتكاد كل القوى السياسية في لبنان تجمع على رفض أن يكون "الثلث المعطل" في مجلس الوزراء لأي فريق سياسي، حتى حزب الله، الحليف الأوثق للرئيس عون، يرفض منحه هذا الأمر ضمناً، فضلاً عن أنه يتوجّس من أداء رئيس التيار الوطني الحر، الوزير جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية.

لا شكّ أنه من ضمن الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية في لبنان الحق بالموافقة أو عدم الموافقة على التشكيلة الحكومية، وهذا محل اتفاق بين الجميع، ولكن خطورة ما جرى أنه : أولاً يعيد الأمور والإتصالات والتشاور إلى المربع الأول بعد انقضاء قرابة مئة يوم، وأن فيه بعض التجاوز على صلاحيات الرئيس المكلف، إذ أن الدستور أناط التكليف بالرئيس المكلف دون أن يسمح لأي طرف بالتدخل في هذا الموضوع، وأكد أيضاً أن الحكومة مؤسسة مستقلة وليست تابعة لرئاسة الجمهورية، ولها مبناها الخاص، وأن رئيسها هو الذي يضع جدول أعمال الجلسات، ويحدد موعد الإجتماعات، ويترأس الجلسات في مبناها الخاص، وإذا حضر رئيس الجمهورية إلى هذا المبنى، فإنه يترأس الجلسة عند ذلك، ولا تعقد أية جلسة بغياب رئيس الحكومة.

خطورة ما جرى ويجري أن هناك محاولة لتفريغ الدستور من مضمونه وتأويل نصوصه بحسب الرغبات والطموحات، من خلال تكريس أعراف جديدة في البلد، ومن ذلك التدخّل في تشكيل الحكومة عبر وضع الشروط والعراقيل، ومن خلال فرض "فيتوات" على على قوى سياسية أخرى، وهو ما يضعف الرئيس المكلف أثناء التكليف، ويكبّله في الأداء أثناء الممارسة.

لبنان اليوم في مرحلة دقيقة وصعبة على المستوى السياسي لا تقلّ خطورة عما يجري في المنطقة، بل يكاد يكون مرتبطاً بما يجري هناك. في لبنان هناك محاولة لإعادة زمن الإمتيازات القديمة من قبل بعض القوى والأطراف السياسية التي ترى أن الفرصة سانحة في هذا الوقت. وفي مقابل ذلك هناك مساعي لتكريس هيمنة جديدة من خلال فائض القوة التي يتمتع بها البعض جراء تطورات المنطقة، بينما لبنان بحاجة فعلية وجادة للتركيز أكثر على تطبيق والتزام وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب الأهلية المشؤومة، قبل أن تعود هذه الحرب وتندلع فيه مرة أخرى في وقت يعود الآخرون من حروبهم.