لم يعرف التاريخ الحديث مأساة كالتي يتعرض لها الشعب السوري منذ سنوات. فالمراقبون يتحدثون عن المجازر التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، مروراً بمجزرة صبرا وشاتيلا، وصولاً إلى مجازر قطاع غزة عام 2014، إلا أنها كلها لا ترقى إلى ما يتعرّض له الشعب السوري من مجازر متواصلة منذ قرابة ست سنوات، قصفاً بمدافع الدبابات والطائرات، والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، حيناً بطيران النظام وأحياناً أخرى بالطيران الحربي الروسي.. دون أن يرفّ للعالم جفن أو يتخذ قراراً حاسماً بوقف هذه الحرب الشرسة المدمرة من نظام ضد شعبه، لمجرد أن هذا الشعب رفع صوته ضد طغيان النظام وجبروته، مطالباً بالحرية والكرامة.
قبيل عيد الأضحى عقد وزيرا خارجية الولايات المتحدة وروسيا سلسلة اجتماعات، في أكثر من عاصمة، بهدف الوصول إلى هدنة مدتها أسبوع، احتفاءً بعيد الأضحى المبارك. وعلى الرغم من انتهاك الهدنة ومواصلة قوات النظام قصفه للقرى والمدن والأحياء السكنية، إلا أن قوى المعارضة أوقفت عملياتها. لكن الطامة الكبرى جاءت في اليوم الأخير لأسبوع الهدنة، فقد شنّ الطيران الحربي الروسي (أو السوري) سلسلة غارات على مدينة حلب، مستهدفاً قافلة من المساعدات الإنسانية ارسلتها الأمم المتحدة بالتنسيق مع الهلال الأحمر السوري لإغاثة المنكوبين في حلب وجوارها، مما أوقع عشرات القتلى والجرحى.
وقد أصدرت الهيئات الإنسانية المواكبة للقافلة بيانات إدانة للغارات، متحدثة عن أن الطيران الحربي الروسي هو الذي شنّ الغارات. كما أن الأمين العام للأمم المتحدة (بان كيمون) اتهم الحكومة السورية بقتل معظم المدنيين خلال الحرب الممتدة منذ خمس سنوات في البلاد، مطالباً بوقف القتال. وفي كلمته أمام الاجتماع السنوي لزعماء العالم في الأمم المتحدة، قال: «إن الحكومة السورية ما زالت تقصف الأحياء بالبراميل المتفجرة، وتمارس التعذيب الممنهج لآلاف المعتقلين». مضيفاً أن الدماء تلطخ أيادي الرعاة الأقوياء الذين يغذون آلة الحرب. وندد بالهجوم الوحشي على قافلة الأمم المتحدة في ريف حلب، ودعا الجميع الى وقف القتال وبدء المحادثات، وذلك بعد هدنة استمرت سبعة أيام. لكن الاجتماعات الجانبية التي يعقدها وزيرا خارجية روسيا وأميركا استمرت دون أن تصل إلى قرار بشأن الحرب الدائرة في سوريا.
لا أريد إلقاء الكرة في الملعب الدولي، متجاوزاً الساحة اللبنانية والعربية، وهما ترصدان وتتابعان ما يجري قريباً منهما في سوريا. فقد اضطر ملايين السوريين الى الهجرة من منازلهم ومدنهم وقراهم، وتوزعوا في الأقطار المجاورة، لبنان وتركيا والأردن وغيرها، حيث يعيش معظمهم في مخيمات اللجوء دون خدمات انسانية أو تعليم لأبنائهم، حيث يتعرّضون للإهانة من الشعوب المجاورة لأنهم سلبوها فرص العمل ومشافي الإغاثة وغيرها، مطالبين برحيلهم إلى حيث أتوا.
أما عندنا في لبنان، فإن الموضوع يأخذ بعداً آخر طائفياً ومذهبياً، لذلك فإن عدداً من رموز بعض الطوائف اللبنانية يمارسون نشاطاً عنصرياً فاضحاً، لماذا؟ لأن معظم النازحين السوريين من المسلمين، وهؤلاء يعانون اشكالية ازدياد عدد المسلمين في لبنان وتقلص عدد طوائفهم، مما سوف يؤثر على وزنهم السياسي والانتخابي في البلد.
لكن الجانب الأشد مرارة هو مأساة الشعب السوري ذاته، فقد أعلن هذا الشعب منذ قرابة ست سنوات ثورته على نظام وراثي استبدادي وطائفي، في موجة ثورات الشعوب العربية على أنظمتها القمعية الاستبدادية، واستمر الشعب السوري يتظاهر مطالباً بالحرية والكرامة الإنسانية ستة أشهر، كان النظام خلالها يستعمل كل ما تحت يده من سلاح دفاعاً عن استمراره في كراسي السلطة، إلى أن بدأت الانشقاقات في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ونشوء «الجيش الحر» وسواه من قوى الثورة، وصولاً إلى «داعش» و«النصرة» وغيرهما من الفصائل التي كان للنظام اليد الطولى في اطلاقها، سواء في سوريا أو العراق، لتتحول المعركة من المطالبة بالحرية والكرامة إلى مواجهة الإرهاب. وقد وجدت الأنظمة هوية إسلامية ألصقتها بهذه المجموعات، عن طريق الافراج عن عشرات (أو مئات) الشباب المتطرف في السجون السورية والعراقية، وليس ذلك بعيداً عنا في لبنان عند اطلاق شاكر العبسي عام 2007 من سجن حلب المركزي، حين قدم من سوريا واستقر في مخيم النهر البارد، مع مجموعة من فصيل الجبهة الشعبية - القيادة العامة، لينشئ تنظيم «فتح الإسلام» ويدمر معظم منازل المخيم والقرى المجاورة.
وبالعودة إلى الملف السوري مرة أخرى، كيف لجامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي أن يرصدا سقوط مئات ألوف القتلى، ومعظمهم من الأطفال والنساء، دون أن يرف لهذه المؤسسات جفن، لا سيما بعض القوى الحزبية اللبنانية التي ترسل أبناءها وسلاحها الذي كان مكلفاً بالدفاع عن لبنان والمقاومة والممانعة فيه، لمجرد أن النظام السوري كان يتيح لها فرص ممارسة أدائها الحزبي أو العسكري.. بينما يقوم هذا النظام بإبادة الشعب السوري، ليس دفاعاً عن سوريا ولا المقاومة أو الممانعة، وانما من أجل أن يستمر حاكماً مطلقاً، يتوارث الحكم من الأب إلى الأبناء.. في وقت طويت فيه مثل هذه الصفحات على مستوى العالم!! وسواء استمر هذا النظام في الحكم أو اندثر وطويت صفحته.. ماذا ستقول هذه القوى الحزبية (أو الطائفية المذهبية) لذوي قتلاها وأبنائهم، وقد سقطوا في ساحات لا علاقة لهم بها، ودفاعاً عن قضية لا تمتّ إلى الدين أو الحرية والكرامة بأي صلة.
دماء الشعب السوري أمانة في رقابنا جميعاً. وإذا كان اللبنانيون قد تعلموا دروساً من حروبهم المتتالية، فالحرب الدائرة في سوريا جديرة بأن يكون لها نصيب من هذه الدروس.