خلال الأسابيع الماضية، انشغل العالم العربي -ومنه لبنان- بأحداث داخلية وانتخابات بلدية ونيابية، فضلاً عن الأحداث الأكبر التي تسود في سوريا وليبيا واليمن. لكن ما جرى ويجري على الساحة الفلسطينية، كان وما زال أكبر من كل الأحداث والوقائع. فلم يسبق لشعب أن تعرّض للتهجير والتشريد إلى دول الجوار وكل أنحاء العالم، لمجرد أن أتباع دين معيّن أرادوا أن يحتلوا أرضاً يظنون أنها مقدسة، كما يراها الآخرون وأصحاب الأرض كذلك. ثم يكون عدوان 1967 الذي اغتصب فيه هؤلاء بقية المدن الفلسطينية ومنها القدس، اضافة الى موجات من الاحتلال واضطهاد من بقي من أصحاب الأرض، وصولاً إلى اعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس، مع أن كل القرارات الدولية ما زالت تعتبر القدس الشرقية أرضاً محتلة، شأنها كشأن بقية المدن الفلسطينية، كالخليل ونابلس ورام الله وأريحا وبيت لحم.
واليوم، لماذا يوغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في قتل عشرات اللاجئين الفلسطينيين وملاحقتهم بالقنابل المسيلة للدموع وبالرصاص الحيّ والمطاطي، مع أن كل ما يفعلونه هو مجرد الخروج من مدنهم وقراهم في الشتات داخل حدود قطاع غزة أو غيره من المناطق الفلسطينية، ليشرفوا على مدنهم وقراهم المحتلة داخل الكيان الصهيوني. والأسوأ من كل ذلك هو الموقف الأميركي في المؤسسات الدولية، التي طالبها الفلسطينيون بمجرد ادانة عمليات الاعتداء عليهم، أو تشكيل لجنة تحقيق دولية في المجازر التي باتت تقع كل يوم في المناطق الحدودية، وهي مسيرات سلمية لا تحمل سلاحاً ولا تمارس اعتداء على الذين يحتلون ديارهم ويتمتعون بخيرات مزارعهم. يحدث هذا في وقت يقول فيه وزير خارجية «دولة» عربية خليجية ان من حق أي دولة أن تدافع عن نفسها، بما في ذلك إسرائيل «إذا تعرضت لأي اعتداء. ثم يأتي موقف خليجي آخر ليوافق على هذا التصريح بدعم حق هذه «الدولة» بالدفاع عن نفسها، في الوقت الذي تمارس هي فيه كل أشكال الاعتداء  على من حولها من الأقطار والشعوب، حتى من أهل البلد الأصليين.
وعقد مجلس الأمن الدولي جلسة استثنائية بدعوة من دولة الكويت للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وشفافة، لكن مشروع القرار لم يأخذ طريقه الى التنفيذ، لأن المندوبة الأميركية في المجلس «نيكي هايلي» اعترضت على القرار، وقالت «ان إسرائيل مارست ضبط النفس» خلال الأحداث التي وقعت يوم الاثنين، وإن «الولايات المتحدة تأسف للوفيات، لكن هناك الكثير من أعمال العنف في المنطقة»، واعتبرت هايلي «أن حركة حماس تشجع على العنف، ورأت أنه لا توجد صلة بين تدشين السفارة الأمريكية في القدس والأحداث الفلسطينية.. وأن حركة حماس هي التي دفعت بالمتظاهرين الى الاقتراب من الحدود والاعتداء على المواطنين الإسرائيليين». وكل ما فعله مجلس الأمن بعد ذلك هو وقوف أعضائه دقيقة صمت تعاطفاً مع الضحايا.
وبعد ذلك وقبله، كيف كان الموقف العربي (وكذلك اللبناني) من الأحداث التي وقعت في فلسطين؟ لقد خرجت مظاهرات ومسيرات وقامت اعتصامات في عدد كبير من أقطار العالم، من شرقه الى غربه، وفي القارة الأوروبية والأمريكية والآسيوية، كلها كانت تدين العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وتطالب بوقف هذا العدوان، لكن الملاحظ أن التعاطف العربي (واللبناني خاصة) كان في أدنى حالاته، فمصر مشغولة بارتفاع سعر بطاقات المترو، والسودان بارتفاع سعد الوقود، وليبيا بعودة حفتر، وتونس بنتائج الانتخابات البلدية، والجزائر بالاعداد للانتخابات الرئاسية.. اللهم إلا اليمن، التي خرجت فيها مسيرة حاشدة في صنعاء، هتف فيها المتظاهرون ضد أمريكا وإسرائيل. وهنا لا بدّ من التوقف عند المعنى الكبير الذي لا تزال تحتفظ به القضية الفلسطينية، فهي الجامع الوحيد الذي تلتقي عليه أمتنا العربية، والظلامة الكبرى التي لا لبس فيها ولا خلاف في أن القرن العشرين شهد عدواناً صهيونياً وغربياً على الشعب الفلسطيني، وأن من حق هذا الشعب أن يعود الى أرضه، سواء تحت عنوان «حق العودة» أو عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا الى المخيمات في أقطار الجوار. والأراضي الفلسطينية المحتلة ليست مجرّد بلد جرى تشريد أهله منه، بل هو أرض مقدسة لها مكانة خاصة لدى المسلمين والمسيحيين، حتى لو طالب اليهود بحقهم في أن يمارسوا عباداتهم فذلك ما لم يمنعهم منه أحد خلال القرون الماضية، لا سيما بعد دخول المسلمين الى بيت المقدس بقيادة الخليفة للراشد عمر بين الخطاب، الذي انتقل إليها من المدينة وتسلم مفاتيحها دون حرب. وإذا كانت حروب الفرنجة (أو ما يسمى الحروب الصليبية) قد أساءت الى بيت المقدس وسكان بيت المقدس، فإن قروناً من التعايش بين أتباع الرسالات السماوية كانت كفيلة بضمان التعايش بين هؤلاء، خاصة أن العدوان الغربي على فلسطين والعالم العربي بدأ عام 1096م وانتهى عام 1272م (490 هـ - 670 هـ) أي قرابة مئتي عام.
و«إسرائيل» تحتفل هذه الأيام بذكرى تأسيسها السبعين، كما يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى «النكبة»، أي مرور سبعين عاماً على قيام دولة إسرائيل، ونزوح أهل فلسطين الى الأقطار المجاورة وإلى كل أقطار العالم، لا أحد يطالب اليوم بالقاء اليهود في البحر، ذلك أن معظمهم قدموا من أقطار أوروبية وأمريكية، ولا يزالون يحتفظون بجوازات سفرهم الى الأقطار التي قدموا منها. وقد سبق لجالية يهودية كبيرة أن كانت تستوطن بلاد الأندلس عندما كانت مسلمة، وبعد الإجهاز عليها وضمها الى اسبانيا وضع الجيش الاسباني اليهود في بواخر طافت بهم عدداً من الأقطار الأوروبية على سواحل المتوسط الجنوبي، لم تستقبلهم سوى تركيا العثمانية، وما زالت نسبة كبيرة منهم تستوطنها حتى اليوم، بعد أن حملوا لقب «يهود الدونمة»، فهل مثل هذا اليوم يكون بعيداً؟!