العدد 1476 /1-9-2021

أنْ يُحاكَم رئيس أمام القضاء بأيّة تهمة من التهم فهذا دليل صحّة وعافية وسيادة القانون حيث يُحاسب الجاني مهما علا شأنه أو كبُر مقامه، فضلاً عن أنّ ذلك يعني أيضاً أنّ القانون فوق الجميع، وأنّ الحقوق مُصانة، وأنّ القوي ضعيف حتى يُؤخذ الحقّ منه، والضعيف قوي حتى يُؤخذ الحقّ له، وهو دليل عافية هذا النظام، وعافية المجتمع وعافية القضاء فيه. أمّا أن تكون المسألة خاضعة لابتزاز أو لحسابات سياسية أو انتقائية في تطبيق القانون وإحقاق الحقوق وإقامة العدالة فذاك شيء آخر لا يمتّ لا إلى العدالة ولا إلى النظام ولا إلى القانون ولا إلى القيم، ولا إلى الاستقرار ولا إلى أيّ شيء من هذه المفاهيم.

قبل أيام أصدر المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، مُذكّرة إحضار (جلْب) بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، وكلّف الأجهزة المعنيّة في الدولة تنفيذ مضمون هذه المُذكّرة، بمعنى آخر طلب منها أن تتوجّه إلى السراي الحكومي حيث مقر إدارة الدولة، وتقوم باعتقال رئيس حكومة تصريف الأعمال واقتياده مخفوراً إلى المحقق العدلي، وذلك لأنّ دياب، بحسب وجهة نظر المحقق العدلي البيطار، لم يمثل أمامه بعد الإدعاء عليه بجرم الإهمال والتقصير وأمور أخرى في قضية انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020.

وللتذكير فإنّ الدستور اللبناني أناط محاكمة الرؤساء والوزراء بمحكمة خاصة بهم في حال ارتكبوا ما يستوجب المحاكمة أثناء القيام بواجباتهم الوظيفية، فضلاً عن أنّه جعل للرؤساء فضلاً عن الموظفين حصانة معيّنة لا تسمح بمحاكمتهم إلا وفق الأصول المُقرّة والمتّبعة دستورياً وقانونياً، كما وأنّ مجلس النواب رفض رفع الحصانة عن بعض النوّاب في هذه القضية للريبة والشك، وإلاّ بعد التثبّت من الإخلال الوظيفي. ولذلك فإنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، لم يمْثل أمام القاضي البيطار يوم 26 آب سنداً لهذه المعطيات، واعتبر أنّ المحقق العدلي في القضية ليس صاحب اختصاص للتحقيق معه وفقاً للدستور ووفقاً لما قاله المجلس النيابي، ناهيك عن أنّ بعض النوّاب تقدّموا أمام المجلس النيابي باقتراح قانون لرفع كل الحصانات عن كلّ المسؤولين في قضية انفجار المرفأ، غير أنّ كتل نيابية في مقدمها كتلة لبنان القوّي التي تُعتبر الكتلة التي يتكىء ويستند إليها رئيس الجمهورية، ميشال عون، رفضت الاقتراح وشكّكت فيه.

على كل حال فإنّ محاكمة الرئيس دياب أو غيره من المسؤولين اللبنانيين يُعتبر مطلباً عند أهالي ضحايا انفجار المرفأ وعند أغلب اللبنانيين، وليس دفاعاً عن دياب أو غيره، ولكن الطريقة التي قارب فيها القاضي البيطار الملف تثير جدلاً كبيراً وكثيفاً من الشكّ والارتياب، وتضع القضاء على المحك وأمام مصداقيته.

فالقاضي البيطار إدّعى قبل فترة على رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، وعلى وزراء أشغال سابقين ونوّاب حاليين، وعلى موظفين في الإدارة اللبنانية والأجهزة الأمنية والعسكرية، من بينهم مدير عام الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، ومدير عام أمن الدولة، اللواء طوني صليبا، ولم يمثل أحدٌ من كلّ أولئك أمام المحقق العدلي في الوقت الذي حدّده له، ليأتي قبل أيام ويُصدر مُذكّرة إحضار وجلب بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال في بلد يقوم نظامه السياسي على تقاسم وتوزيع الحصص بين الطوائف والمذاهب بما يعني أنّ الرئيس دياب يمثّل في موقعه الوظيفي الطائفة التي ينتمي إليها، وبالتالي فإنّ الادعاء لم يعد على دياب كشخص، بقدر ما نظرت إليه الطائفة على أنّه استهداف لدورها الوطني وحضورها في مواقع الدولة والقرار، وجاء ذلك في وقت يتم وضع العراقيل أمام رئيس الحكومة المكلّف الذي ينتمي إلى الطائفة ذاتها في عملية تشكيل الحكومة بما يُفشل مساعيه في عملية التشكيل، وهذا ما أثار مزيداً من الارتياب والشكّ لدى أبناء الطائفة، حتى بدا الأمر وكأنّه استهداف لها وهو ما عبّر عنه رؤساء الحكومات السابقون في بيان أصدروه، وما تناوله مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، في خطبة الجمعة عندما رفض هذا الاستهداف وهذه الطريقة التي يتمّ التعامل بها مع رئيس حكومة تصريف الأعمال أو مع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة.

لقد تجاوز أو تجاهل القاضي البيطار بعض الحقائق والمعطيات التي جعلت قراراته موضع الشك والتصنيف، بل موضع اتهام القضاء اللبناني بأنّه يمارس نوعاً من العدالة الانتقائية التي تخدم أجندات سياسية ولا تطمح أو تعمل لكشف حقيقة انفجار المرفأ والجهات أو الشخصيات المسؤولة عن ذلك، ويأتي في هذا السياق تجاهله لاعتراف رئيس الجمهورية، ميشال عون، أمام عدسات الإعلام وفي مؤتمر صحفي أنّه كان على اطلاع ومعرفة بوجود مواد قابلة للانفجار وبكمّيات كبيرة في مرفأ بيروت قبل انفجارها بأسبوعين على أقل تقدير، غير أنّ القاضي البيطار لم يلتفت إلى هذا الاعتراف، ولم يكلف نفسه حتى عناء الاستماع إلى إفادة رئيس الجمهورية الذي أبدى استعداده لذلك، ومن هنا وضع نفسه موضع الشكّ، بل وضع القضاء موضع الشكّ، وأظهر أنّ الموضوع لا يتصل بكشف الحقيقة بقدر ما يتصل بتصفية حسابات سياسية وبالتالي ممارسة نوع من العدالة الانتقائية والاستنسابية إذا لم نقل الانتقامية التي كادت أن تخلط الأمور وتُدخل البلد في أتون أزمة جديدة هو أساساً بالغنى عنها.

على كل حال فإنّ ما تمارسه السلطة القضائية في لبنان، أو بعضها حتى نكون أكثر دقّة وإنصافاً هو نوع من العدالة الانتقائية أو الانتقامية التي مارستها السلطات من قبل في دول مجاورة وأوصلت الأمور إلى كوارث في تلك البلدان جعلت الناس تكفر بالقضاء والنظام وحتى بمؤسسات الدولة.

د. وائل نجم