العدد 1413 / 13-5-2020

د. وائل نجم

منذ تأسيس دولة لبنان بشكله الحالي قامت الحياة السياسية على نوع من التوريث السياسي فكان النظام امتداداً لنظام الاقطاع الذي ساد لفترة من الزمن حيث هيمنت عائلات معيّنة في كل منطقة من لبنان الجديد على الحياة العامة فيها، وراحت هذه العائلات تتوارث الزعامة أباً عن جدّ، والمقاعد النيابية، والمواقع الإدارية، وكل شيء كان محتكراً له، وكان الناس يسلّمون لهذه القواعد ويخضعون لها بإرادتهم أو غصباً عنهم، أو بالحيل التي كانت تنطلي في كثير من الأحيان عليهم تحت عناوين ما أنزل الله بها من سلطان، فتارة تحت عنوان اهتزاز موقع الزعيم، وتارة تحت عنوان خسارة مكاسب الطائفة أو العشيرة أو غيره، وطوراً تحت عناوين أخرى.

غير أنّ اللبناني وبعد الحرب المشؤومة التي اندلعت في العام 1975 وانتهت في العام 1989 ظنّ أنّه دخل فترة جديدة من الحياة العامة التي حرّرت فيها الأحزاب والمليشيات الناس من تلك الطبقة الحاكمة لصالح نظام يقوم على الكفاءة أو المساواة، إلاّ أنّه سرعان ما اكتشف أنّه انتقل من "تحت الدلفة إلى تحت المزراب" على ما يقول المثل، فأمراء الأحزاب والمليشيات لا يفرقون كثيراً بين أمراء الإقطاع، وبالتالي راح الزعيم الجديد ينقل عهدة الزعامة إلى أولاده أو من يختاره من بعده، فيما الناس تتقبّل هذا الواقع من دون نقاش.

آخر هذه الفصول التي برزت خلال الأسابيع الأخيرة، والتي تمثّل جزءاً من هذه المشهدية، أو النزاع على زعامة الطائفة أو العشيرة، الانقسام أو الصراع غير المعلن الذي برز إلى العلن بين ابني الرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري.

توجّه الابن البكر للرئيس الراحل، بهاء، إلى اللبنانيين ببيان يتناول فيه قضايا وطنية وعامة، معتبراً ولو ضمناً، أنّ شقيقه الذي قاد دفة السفينة، ولبس عباءة الزعامة قبل نحو خمسة عشر عاماً لم ينجح في تجربته وفي حماية إرث والده، وبالتالي فإنّ ذلك مثّل دعوة غير مباشرة له للتنحّي جانباً وإفساح المجال أمام شقيقه الذي غاب كل هذه السنوات، وآثر الإبتعاد عن البلد، ليقوم هو بتقديم تجربة جديدة في قيادة دفة السفينة، ولبس عباءة الزعامة. غير أنّ السجال الذي تولّاه مقربون من الرئيس سعد الحريري، وردّوا فيه على شقيقه بهاء، كشف أنّ الرجل لن يتنازل ولن يستسلم بسهولة، ولن يقبل بانتقال الزعامة إلى شقيقه، وهو ما وضع الأتباع، بل الساحة التي تدين بالولاء لاعتبارات بعضها منطقي وبعضها غير منطقي، أمام تحدٍّ من نوع جديد، هو تحدّي تشظي هذه الساحة وتبعثرها أكثر مما هي مبعثرة، وأكثر مما تعيشه من حالة ترهّل وتشظّ في زمن هي أحوج ما تكون فيه إلى اجتماع ولقاء.

الحقيقة أنّه يجب أن نكون قد انتهينا، ومنذ زمن، من مسألة التوريث السياسي سواء بالقوة أو بالخدعة أو بأيّ وسيلة أخرى.

إنّ هذه الساحة التي يجري العمل الآن على تقاسمها واختراقها وتشتيتها أكثر مما هي مشتتة، ليست قطيعاً من الغنم، مع الاعتذار على سوق هذه العبارة، حتى يتمّ التعامل معها بهذه الطريقة، وعلى قاعدة نقل ولائها من شخص إلى آخر وكأنها لم تبلغ بعد سنّ الرشد، ولم تنضج كفاية لتلمّس طريق خلاصها وعودتها إلى مكانتها الريادية التي كانت تعيشها في وقت من الأوقات.

وإذا كان من حق أيّ شخص أن يطمح لمزاولة العمل السياسي أو الوطني من أيّ موقع كان، فمن حقّ هذه الساحة أن تبدأ التفكير الجدّي والحقيقي في مستقبلها بعيداً عن أسر الهياكل الهرمة لها، أو أولئك الذين يريدون أن يأخوذها إلى مزيد من التنازلات أو المغامرات أو الألعاب التي لا تنتهي مفاعيلها ونتائجها.

آن لهذه الساحة أن تثبت للجميع أنّها عادت إلى وعيها، وبلغت أكثر من سنّ الرشد، وبإمكانها أن تقرّر بعيداً عن كل منطق التوريث، وبعيداً عن كل لغة العصف والتعبئة الطائفية والمذهبية والضيّقة. آن لها أن تقول لكل من يحاول اسغلالها من الداخل أو الخارج، ولكل الطارئين والعابثين والغارقين في الأوهام والطموحات الخاصة والشخصية أنّها ليست ملك يمينهم يبيعونها عندما يخسرون في مقامراتهم، ويشترونها بذهبهم ونفظهم عندما يجدون أن النفط يباع بسعر بخس في أسواق النفط العالمية. آن لهذه الساحة أن تقول لكل أولئك كفى، وأن تأخذ قرارها الحرّ الذي تنقذ به نفسها والوطن معها.