احتدمت معركة انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال الأسبوع الماضي، ليس لأن الرأي العام اللبناني بات يستشعر مرارة الفراغ الرئاسي والشغور المفضوح وغير المسبوق في أعلى موقع دستوري في الدولة.. ولكن لأن عدداً من رؤساء الكتل النيابية تقلبوا في مواقعهم وتنقلوا في مواقفهم، مما جعل كتلهم الحزبية في حيرة من أمرها، وكذلك قواعدهم الشعبية التي عبّرت عن تطلعاتها خلال الانتخابات البلدية والاختيارية التي أجريت في شهر أيار الماضي.
صحيح أن العلاقات السياسية أو الحزبية وحتى الشخصية تترك بصماتها في القرار الذي يتخذه الحزب أو الزعيم، لكنّ لذلك حدوداً وضوابط لا يمكن تخطيها أو القفز من فوقها. ولبنان يحكمه نظام برلماني ديمقراطي، هو كل ما بقي للبنانيين من تراث، وتحكم حياته السياسية موالاة ومعارضة، حملت الأولى عنوان 14 آذار، والثانية 8 آذار، وذلك بالعودة إلى أحداث وقعت عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقرار انسحاب الجيش السوري بتجمع يوم 8 آذار في ساحة رياض الصلح لتقول: شكراً سوريا. وحشود أوسع وأكبر في ساحة الشهداء يوم 14 آذار مطالبة بالسيادة والاستقلال، مما حمل الحكومة على تقديم استقالتها. وكان من البديهي أن يكون لكل من الكتلتين مرشحها لرئاسة الجمهورية، فقد جرى تقديم أربعة أسماء من الموارنة، اثنين من 14 آذار: أمين الجميّل وسمير جعجع، واثنين من 8 آذار: ميشال عون وسليمان فرنجية. وعقد مجلس النواب جلسته الأولى لينتخب واحداً منهم لموقع الرئيس. لكن أياً منهم لم يحقق أغلبية، وهكذا تأجلت جلسات المجلس لعدم توفر النصاب خمسة وأربعين جلسة حتى اليوم. وقد انسحب جعجع والجميّل في وقت مبكر، وبقي عون وفرنجية، الى أن منح الرئيس الحريري تأييده للنائب فرنجية، مما جعل الصراع يدور داخل تكتل 8 آذار بين المرشحين. وهنا دخل تيار المستقبل على خط الصراع بإعلان الرئيس الحريري تأييده للوزير فرنجية، مما أثار حفيظة رئيس حزب القوات اللبنانية، فأعلن تأييده للعماد عون.. الى أن وصلت المواجهة الى ما هي عليه اليوم.
والسؤال المطروح هو: على أي أساس يجري تأييد هذا المرشح وسحب التأييد من ذاك؟ فقد كانت القوات اللبنانية بعيدة جداً عن التيار الوطني الحر، لكن ما إن جرى اعلان دعم تيار المستقبل لسليمان فرنجية حتى انتقل الدكتور سمير جعجع لتأييد العماد ميشال عون، على الرغم من الانقطاع الحزبي والسياسي والشخصي بين الرجلين. إذ من المعلوم أن حرباً ضروساً نشبت بينهما عام 1989 حملت عنوان «حرب الإلغاء» جرى خلالها استعمال كل أنواع الأسلحة وأثقلها سعياً إلى «توحيد البندقية المسيحية»، ولم تنته إلا برحيل ميشال عون إلى فرنسا بعد خروجه من قصر بعبدا لاجئاً، ودخول سمير جعجع السجن بعد محاكمات عاجلة. فأين ذهب هذا التاريخ، وعلى أي أساس يمنح حزب القوات تأييد نوابه للعماد عون؟ الجواب ليس سياسياً، لأن السبب هو أن المرشح الآخر هو سليمان فرنجية، وبينه وبين جعجع ما يطول شرحه!!
في المقلب الآخر.. كيف ولماذا يمنح الرئيس سعد الحريري تأييده للمرشح سليمان فرنجية، دون مقدمات ولا مبرّرات، مما صدم وفاجأ شارعه السياسي وأدى إلى انقسام في تياره الحزبي؟! ومن المعلوم لدى الجميع أن الحريري يتّهم النظام السوري بقتل والده، وفرنجية تربطه علاقات وثيقة بالرئيس بشار الأسد، دون أن يوضح تلك العلاقة أو يحدد مجالاتها، ولا حتى موقفه من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وغير ذلك من القضايا. إلا إذا كان المقصود هو تشتيت الطرف الآخر، الذي انحاز بعضه الى فرنجية وبعضه الآخر إلى: عون، أو إلى الفراغ كخيار يفضله على تأييده لأي منهما. لكن الأهم من كل ذلك ما هو المشروع السياسي لأي مرشح؟
من البديهي أن يكون لأي مرشح، لأي موقع في الدولة أو المؤسسة في أي من أطراف العالم.. أن يكون لديه مشروع في السياسة والاقتصاد، فضلاً عن القضايا التي تعصف بالمنطقة.. وهذا ما لم يعرفه اللبنانيون عن أي من المرشحين، خاصة أننا نواكب ما يجري في الولايات المتحدة الأميركية إزاء عملية الترشيح للرئاسة الأولى، إذ يخوض كلا المرشحين معارك فكرية وسياسية واقتصادية، وحتى شخصية، ليأتي الرئيس المنتخب وشعبه يعرف كل توجهاته ومواقفه من القضايا الداخلية والعالمية. فماذا عن مشروع ميشال عون في الزواج المدني أو الطائفية السياسية أو مشاركة اللبنانيين في القتال داخل لبنان أو خارجه؟ وكيف هي رؤية سليمان فرنجية من النظام السوري الذي قتل مئات الآلاف من أبناء شعبه، وهل يؤيده في هذا الموقف الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل؟!
وإذا خرجنا من هذه الاشكاليات، أين نحن من السجال الذي نشب بين وزير المالية (علي حسن خليل) ابن حركة أمل، والتيار الوطني الحر الذي تصدى له حين تحدث عن محاذير «العودة إلى الثنائية المارونية - السنّية عبر إحياء ما يعرف بميثاق عام 1943، في حال وصول عون إلى الرئاسة الأولى»، وعودة الرئيس الحريري إلى السراي الكبير في وسط بيروت.. وقد تعجَّل ممثل التيار الوطني الحر الوزير السابق سليم جريصاتي بالرد على هذا الطرح بقوله: «نرفض تهديدنا بالحرب الأهلية، فهذا كلام غير مقبول لا في الشكل ولا المضمون، ويصب في فتنة قد تكون غير مقصودة، وسنتصدى لها في مطلق الأحوال». كل ذلك يؤكد أن تأييد هذا المرشح أو ذاك، أو نقل تأييده أو معارضته يتم بشكل اعتباطي، ولا يؤشر الى نضج سياسي، سواء كان بممارسة التأييد أو المعارضة.
بقي خيار واحد لم يمارسه اللبنانيون، هو اطلاق يد أعضاء المجلس النيابي في اختيار الرئيس والتصويت له، لأن الكتل السياسية متجهة إلى التفسخ والانفراط، وقد ظهر ذلك في أكبر كتلة وأكثرها نشاطاً وحيوية، أعني كتلة تيار المستقبل، ومن حق أي نائب أن ينتخب من يشاء ومن يطمئن لفكره ووعيه السياسي، لأن منح التأييد أو سحبه من هذا المرشح أو ذاك لا ينطلق من وعي فكري أو سياسي، وانما هو يتقلب مع المصالح والنزوات، في هذا الاتجاه أو ذاك.